داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

تجارة جوازات السفر تزدهر على أنقاض السياسة

هذه نظرية جديدة لتعريف المتفائل، هو ذلك الذي يحمل أقوى جواز سفر في العالم. أما المتشائم، فهو ذلك الذي يحمل أسوأ جواز سفر في العالم. وهذه النظرية على منوال نظرية نفسية قديمة مستهلكة، هي قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت، وقل لي من هم أصدقاؤك أقل لك من أنت. لكن هذه لا تتطابق مع تلك في كثير من الأحيان.
انتظمت في السنوات الأخيرة شركات عالمية، مهمتها قياس مستوى قوة جوازات السفر سنوياً. صحيح أن بعض هذه الشركات ليس بعيداً عن الشبهات التي تتصل بنزاهة أو عدم نزاهة تقييماتها، لكن صفا الجو حالياً لبضع شركات عالمية تعلن سنوياً عن جداولها وخطوطها البيانية. والأهم في هذه التقييمات أنها تقول لنا ما هي مميزات الدول التي تستطيع أن تتفاءل بجوازاتها القوية، وعيوب الدول التي تضعها في خانة الجوازات السيئة أو غير المُرَحب بها، وفي مقدمتها حقوق الإنسان. والعامل الفاعل والفاصل في التمييز بين الجوازين هو عدد الدول التي تسمح بدخول صاحب الجواز بدون تأشيرة.
وقبل أن نسترسل في الحديث عن الدول صاحبة الجوازات الأفضل والدول صاحبة الجوازات الأسوأ، نحاول أن نجيب عن سؤال لا أحد يفكر فيه، وهو متى عرف العالم جوازات السفر؟
أصل كلمة «باسبورت» فرنسي يعود إلى لويس الرابع عشر ومعناه عبور الميناء، لأن معظم الرحلات الخارجية كانت تتم بواسطة البواخر. الوحيدون الذين كانوا لا يحملون جوازات سفر في رحلاتهم هم قادة الجيوش والجنود سواء لخوض حروب أو لحملات استعمارية. ومن الطرائف أن أستراليا، ومعظم سكانها من بريطانيا والهند والصين، كانت تفرض على الزوجة أن تحمل موافقة خطية من زوجها على سفرها، وهي ما تستخدمه أكثر الدول الإسلامية، وتفرض دول إسلامية أخرى أن يكون مع الزوجة زوجها أو شقيقها أو عمها أو والدها أو خالها بصفة «مَحرمّ» ويحمل كل منهم جواز سفره معه.
لكن العرب والمسلمين في الدول التي وصلها العرب في زمن الفتوحات عرفوا ما يشبه الجواز. وكان المسؤول في بغداد عن تحرير الورقة التي تجيز سفر أي شخص هو «حاجب السور» أو «متولي الجواز»، وتتضمن الورقة اسم الشخص ومرافقيه من أسرته وعمره ودولته وما يحمله معه من أموال ومتاع. وكان الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) منع السفر إلى أرجاء الدولة أو دخولها إلا بإذن مكتوب ووثيقة موقعة بخط يده لمنع الجواسيس وقطاع الطرق. وأصبحت هذه الوثيقة إلزامية في مصر والشام والعراق كما ورد في كتب التراث. وحمل جواز السفر الإسلامي تسمية أخرى هي «بطاقة الطريق».
في ختام عام الكوارث 2020 صدرت عن مواقع عالمية رصينة تُعنى بالسياحة مثل «غلوبال باسبورت» قائمة بأقوى جوازات السفر في العالم، وقد تصدرت القائمة نيوزيلند حيث يسمح جواز سفرها بدخول 129 دولة بدون تأشيرة مسبقة أو لدى الوصول إلى المطار المقصود. أما المركز الثاني فتقاسمته ألمانيا والنمسا ولوكسمبورغ وسويسرا وآيرلندا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وتسمح جوازاتها بدخول 128 دولة بدون تأشيرة. واحتلت المركز الثالث بدخول 127 دولة كل من السويد وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا. ووصلت إلى المركز الرابع بدخول 126 دولة كل من هولندا والدنمارك والبرتغال وليتوانيا والنرويج وآيسلندا وبريطانيا وكندا. وفي المركز الخامس بـ125 دولة كل من مالطا وسلوفيينا ولاتفيا. وما زلنا ننتظر قراءة اسم الولايات المتحدة فإذا بها في المركز الـ 21 الذي يسمح جوازها بدخول 92 دولة فقط.
وتَصَدّر العرب القائمة في المركز الـ 13 بجواز سفر الإمارات العربية، وهو الأقوى عربياً، ويدخل إلى 103 دول بلا تأشيرة.
بينما احتل الجوازان العراقي والأفغاني المركزين الأخيرين في اللائحة بصفة أسوأ جوازي سفر، وهما الدولتان اللتان غزتهما واحتلتهما الولايات المتحدة تحت عنواني «التحرير» و«حقوق الإنسان»!
ولجوازات السفر القوية أسعار عالمية يمكنك أن تشتريها كما تشتري منزلاً على المحيط أو سيارة تطير! ويُعتبر جواز سفر المملكة المتحدة أغلى جواز ولا يقل سعره عن مليونين و500 ألف دولار. يليه جواز سفر مالطا الذي يباع رسمياً بمليون دولار وهو يماثل سعر الجواز الأميركي. ومن المضحكات السياسية أن بلغاريا التي كانت توفد خلال الحقبة الشيوعية وزير تجارتها إلى الدول العربية لإقناعها بشراء علب معجون الطماطم «الصلصة» بسعر التراب، صارت تبيع اليوم جواز سفرها بما لا يقل عن 560 ألف دولار، وهو أغلى من جوازات إسبانيا (550 ألف دولار) والبرتغال (384 ألفاً) والجبل الأسود (274 ألفاً). وتُعتبر مدينة هونغ كونغ الصينية أكبر سوق لبيع الجنسيات والجوازات في العالم، وبوجود الإنترنت أنت لا تحتاج للسفر إلى هونغ كونغ، وإنما تملأ استمارة موجودة على الإنترنت وتترحم على الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الذي لم يَرَ من الدنيا إلا بلاده والاتحاد السوفياتي. ومن المفارقات أن الصيني الراغب في دخول أوروبا أو أميركا أو أستراليا يشتري جواز سفر جزيرة في المحيط الأطلسي اسمها «فانواتو» يكون في جيبه بعد شهر واحد من تقديم الطلب وتسديد نحو 150 ألف دولار.
يقول المحامي السويسري كريستيان كالين الذي يحمل لقب «مستر باسبورت» إن الجنسيات والجوازات أصبحت تجارة عالمية تقدر قيمتها سنوياً بـ25 مليار دولار، وهي تعادل عائدات كثير من الدول الغنية، وهو شخصياً رئيس مؤسسة «هينلي بارتنيرس» ويعتبر أحد أكبر الضالعين في هذه التجارة المزدهرة.
لكن لا تيأس، ربنا على الظالم، فقد أدت جائحة «كورونا» إلى تخفيض أسعار الجنسيات وجولات السفر في عدد من دول البحر الكاريبي الرائعة التي تعاني من ضائقة مالية كبيرة بسبب الجائحة، كما قالت وكالة «بلومبرغ» للأنباء في يونيو (حزيران) الماضي. وأشارت الوكالة إلى أن جزيرتي «سانت كيتس» و«نيفيس» الكاريبيتين كانتا من أوائل الدول التي قدمت عروضاً مشجعة لشراء الجنسية أو جواز السفر بمبلغ لا يزيد على 150 ألف دولار لعائلة مكونة من 4 أفراد مع حقائب سفر مجانية! وثمة جزر أخرى مثل سانت لوسيان وبرمودا وإنتيغوا والدومنيكان تقدم «عروضاً لا يمكن رفضها» كما قال النجم الراحل مارلون براندو في فيلم «العراب».
وفي كل الأحوال، فإن تجارة الجنسيات وجوازات السفر تعيش حالياً سنواتها الذهبية، منذ أن بدأت قبل عقدين على وقع الاضطرابات والانقلابات والحروب والفوضى السياسية.