جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

شبكة التباعد الاجتماعي

قراءة الصحف «أون لاين»، التبضع «أون لاين»، التعازي «أون لاين»، التعليم «أون لاين»، الحب «أون لاين»... كل شيء في حياتنا أصبح إلكترونياً، حتى مشاعرنا أصبحت إلكترونية مشحونة بطاقة مغشوشة ومليئة بالشوائب.
جاء فيروس كورونا بعد أن مهد الطريق للعالم الافتراضي والإلكتروني، لم يأت في زمن الفاكس والآلة الكاتبة والمراسلة عبر الحمام الزاجل، جاء في توقيت محسوب، وكأن هناك من عبد الطريق ليأتي ويضع النقط على الحروف، ويقلب معايير الحياة رأساً على عقب يستفيد منها «المخططون» و«المستفيدون».
في بداية الجائحة، وخلال الحجر المنزلي الأول، وبداية العمل من المنازل، كان الوضع مختلفاً تماماً عن اليوم بعد مرور أقل من سنة بقليل على «تسونامي» العالم، في بادئ الأمر ظن البعض أن «كورونا» جاء لينظم حياتنا التي فقدت اتصالها بالواقع مما جعلنا ننسى تراتبية أهمية الأشياء وتسلسلها بالشكل الصحيح، ووضع العائلة على أعلى جدول لائحة الأهمية، فرح الكثير بحرارة الشمس الدافئة على الأقل في بريطانيا، خرجوا للتمشي، وتنشق الهواء الخالي من انبعاثات الغاز الناتجة عن بعض السيارات، لنجد اليوم أن الاختناق تغير، بعدما اشتد الخناق حول أعناق الناس الذين أصبحوا أشبه بفئران في أقفاص بانتظار إجراء التجارب عليها.
في أول أيام «كورونا» أبدى الناس جانباً جميلاً، لكن اليوم جعل الفيروس الناس يتأججون بالعصبية والخوف من بعضهم البعض، انتهى زمن المصافحة باليد، وراحت الأيام التي كنت تضم فيها أحبابك، ليصبح الإنسان يشكل خطراً على أخيه الإنسان. في لندن وخلال الحجر المنزلي رقم 2 والإقفال شبه التام، باستثناء محلات بيع الطعام والصيدليات، أصبحت هذه الأماكن المنفس الوحيد للناس، وللأسف ما يحدث في تلك الأماكن من مشاجرات بين الناس مؤسف للغاية، أصبح الناس عدوانيين، يخافون من اقتراب العاملين والمتبضعين الآخرين منهم، الأجواء العامة دائمة التشنج تشعر بها بمجرد أن تضع الكمامة على وجهك قبيل دخولك أرض المعركة في السوبرماركت، أو أي محل يعتبر بيع بضائعه أساسياً.
البيع الإلكتروني زاد، ويعيش أفضل أيامه، فحتى الدفع بالعملة النقدية بدأ يتلاشى، كيف لا واليوم هو زمن «بيتكوين» والدفع بالعملة الوهمية.
يتكلمون اليوم عن اللقاح، ويضخون الوهم في عروقنا بدلاً من اللقاح بعينه الذي يعتبر حلماً، لدرجة أنه أنسانا في بريطانيا «بريكست»، وتوفر الرحلات السياحية إلى القمر، فحتى السفر أصبح معقداً، والخروج من المنزل مقلقاً.
البعض يقول بأن الوضع لن يعود إلى ما كان عليه قبل الربيع المقبل، وهذا الأمر منطقي، ففي حال توفر اللقاح، وأعطي للجميع، فمن الممكن أن يستتب الوضع في غضون ستة أشهر من الآن، ولكن السؤال الذي يحيرني: هل سنعود كأشخاص وموظفين إلى الحياة التي اعتدنا إليها في السابق؟ فاليوم تعودنا على العمل من المنزل، ولو دفع كثيرون ضريبة عالية لقاء ذلك بسبب الأجواء المشحونة بين الأزواج والعائلات، ما اضطر البعض لترك منازلهم، واستئجار أماكن أخرى للعمل بسلام، اليوم نعمل بمفردنا، ولا نتواصل مع الغير إلا عند الضرورة القصوى، أو عبر «زووم»، ونعمل بلباس منزلي مريح، والسؤال هل سنستطيع العودة إلى العمل وسط زملاء آخرين لساعات طويلة؟
حياتنا تبدلت حالها، وبدلاً من أن تقرب المصيبة التي حلت بالعالم المسافات وجدناها تطبق منطق التباعد الاجتماعي، لدرجة أن البريطانيين يفضلون عدم السماح لهم بالتلاقي فترة أعياد الميلاد ورأس السنة لتفادي رؤية ذويهم.
«كورونا» نجحت بكسر القواعد، وتفوقت على بشاعة الحروب، وحولت التواصل الاجتماعي إلى تباعد اجتماعي.