نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

الترمبية بعد ترمب: العرض مستمر

قضي الأمر أو يكاد، بانتظار المصادقة على نتائج انتخابات «المجمع الانتخابي» (538 عضواً) الذي سينتخب الرئيس الأميركي، في 14 ديسمبر (كانون الأول) جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، ما لم يطرأ أي تغيير دراماتيكي على إعادة عد الأصوات في بعض المقاطعات أو الولايات، أو من خلال البت في بعض الطعون المقدمة من حملة الرئيس دونالد ترمب، وهو من غير المرجح.
أصابت صحيفة «نيويورك تايمز» حين عنونت: «بايدن يهزم ترمب». فهذه الانتخابات كانت حول ترمب أولاً وأخيراً. صوَّت الأميركيون إما معه وإما ضده، بصرف النظر عن هوية منافسه.
حتى أشهر خلت، لم يكن بايدن في الواقع - على الرغم من سيرته السياسية الرفيعة المستوى - يمثل شيئاً للناخب الأميركي؛ لا سيما للناخب الديمقراطي الذي من الصعب على بايدن أن يخاطب «نخبويته التقدمية» كما خاطبها باراك أوباما، أو أن يلامس إغراقه في يسارية شعبوية كما لامسها بيرني ساندرز.
بايدن نفسه قال إنه بمثابة رئيس انتقالي بين ترمب وما بعد ترمب، ما يؤكد أنه ليس للرئيس الحالي مشروع خاص، أو رؤية محددة. من صوتوا له صوتوا ضد ترمب.
وما شيوع هاشتاغ «أنت مطرود» بين جمهور الديمقراطيين إلا دليل على هذا الفهم والتصور للمعنى الفعلي للانتخابات الرئاسية.
بيد أن هزيمة ترمب ترافقت مع أداء للحزب الجمهوري الذي باتت الترمبية السياسية علامته التجارية، فاق كل التوقعات.
صحيح أن ترمب هو واحد من عشرة رؤساء فقط في التاريخ الرئاسي الأميركي الذين يخدمون لولاية واحدة، والسادس في هذا النادي منذ نحو 120 سنة؛ إلا أن الأرقام تحكي حكاية أخرى.
لقد صوت حوالي 70 مليون شخص لصالح ترمب، أي ما يعادل عدد الأميركيين الذين صوتوا لباراك أوباما في عام 2008. وبالمقارنة مع الجمهوريين فقد تفوق ترمب بما حصده من أصوات على أي مرشح جمهوري في التاريخ. وأما بالمقارنة مع نفسه، فقد حصل ترمب على ما يقرب من 7.5 مليون صوت إضافي عن رصيده في انتخابات 2016.
وخلافاً لاعتقاد الديمقراطيين أنهم سيطيحون بالأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ويوسعون أغلبيتهم في مجلس النواب، فإن ما حصل هو العكس تماماً. فقد حصد الجمهوريون خمسة مقاعد في مجلس النواب الأميركي، مقلصين الأغلبية الديمقراطية فيه، كما نجحوا على ما يبدو في حماية أغلبيتهم في مجلس الشيوخ، ما لم تغير النتائج المنتظرة اتجاهها التقليدي؛ لا سيما في مقعدي شيوخ جورجيا، بعد إعادة الانتخاب في 5 يناير (كانون الثاني) المقبل. استقرار التوازن السياسي عند النقطة الحالية، سيجعل المناخ السياسي في العاصمة واشنطن شديد الشحن والانقسام حول الأجندة التشريعية، كما حول ملفات السياسة الخارجية.
انتزع ترمب هذا النجاح خلافاً لتقاليد التجربة الرئاسية التاريخية. فبحسب تقرير لـ«رويترز»، جرت العادة على أنه عندما يخسر شاغل المنصب الرئاسي، فغالباً ما يربح الحزب المنافس أكثر وأوسع. جرى ذلك في عام 1980، عندما هزم رونالد ريغان الرئيس جيمي كارتر، وحصل الجمهوريون على 12 مقعداً في مجلس الشيوخ من الديمقراطيين. أما في عام 1992 فترافق انتصار بيل كلينتون على الرئيس جورج بوش الأب مع انتزاع عدد من مقاعد الجمهوريين في مجلس الشيوخ. وعندما هزم فرانكلين روزفلت الرئيس هربرت هوفر في عام 1932، حصل الديمقراطيون على ما يقرب من 100 مقعد في مجلس النواب و12 مقعداً في مجلس الشيوخ، مما أعطى روزفلت الأغلبية الحاسمة التي كان يحتاجها لتمرير قانون «النقد الجديد» أو «نيو ديل»، وهو عبارة عن حزمة هائلة من البرامج، ومشروعات الأشغال العامة والإصلاحات المالية للتعافي من آثار الكساد الكبير.
إلى ذلك، تحطم هذه الأرقام كثيراً من التصورات المسبقة عن تكوين القاعدة الناخبة لترمب، والتي عادة ما تحصر في الرجال البيض الريفيين ومن غير حملة الشهادات، كما تفرض إعادة النظر في التقديرات الخاطئة لأثر سلوكه وخطابه الانقسامي على أمزجة الأقليات العرقية والإثنية.
فبحسب معظم الأرقام المنشورة وذات المصداقية العالية، ارتفع دعم ترمب بنحو أربع نقاط مئوية بين الأميركيين من أصول أفريقية، والأميركيين من أصول إسبانية وآسيوية، مقارنة بأربع سنوات، وعبَّر عن قدرة مذهلة على جذب الأقليات؛ خصوصاً بين الأميركيين الكوبيين في فلوريدا، واللاتينيين في تكساس، والشبان السود من الرجال.
وعلى الرغم من تراجع نسبة التأييد له بين الناخبين النساء من سكان الضواحي، وهو ما أدى لخسارة غير متوقعة في ولايات الغرب الأوسط، كوسكونسن وميشيغان، فإن هذا التراجع جاء أقل بكثير من الصورة التي رسمتها الاستطلاعات قبل الانتخابات.
ما يعنيه ذلك أن الموجة المحافظة التي قادها ترمب طوال أربع سنوات اتخذت شكلاً أكثر تعقيداً من الافتراضات المتسرعة التي يمليها التركيز الحصري على شخص ترمب ولغته وأسلوبه. وهي موجة اعترف عتاة خصومه خلال الأيام الماضية بأنها نمط جديد من المحافظة الشعبوية؛ لكونها موجة متعددة الأعراق وذات جذور حقيقية في أوساط الطبقة الوسطى.
أما على المستوى الحزبي، وعلى الرغم من أصوات جمهورية علت بعد إعلان النتائج، منتقدة الأداء غير الرئاسي لترمب، وأبرزهم ميت رومني، عضو الكونغرس عن ولاية يوتا والمرشح الرئاسي الجمهوري الأسبق، فإن الأكيد أن هيمنة ترمب على الحزب غير مسبوقة في تاريخ الجمهوريين. فهو قائد الحزب، أقله حتى الانتخابات النصفية 2022، وربما حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة 2024.
ولم يثبت في الواقع أن ارتباط المرشحين الجمهوريين بترمب قد انعكس سلباً على مواقف الناخبين منهم، ما يعني أن الموجة المحافظة الجمهورية الترمبية تحظى بتأييد صلب لا يشي بأن خروج ترمب من البيت الأبيض سيعني خروجه من الحياة السياسية الأميركية، أو أن الموجة المحافظة ستهن وتضعف.
هل كانت الانتخابات الأخيرة رفضاً حاسماً لترمب والترمبية؟ اختلفت أبرز صحيفتين ليبراليتين أميركيتين في الإجابة عن هذا السؤال. نافح أحد كتّاب الرأي الأساسيين في «واشنطن بوست» بأن نعم: الانتخابات أنتجت رفضاً حاسماً للرجل الذي شغل العالم. في المقابل ذهب زميل له من كُتاب الرأي في «نيويورك تايمز» لاستنتاج مناقض تماماً، متحسراً على فرصة ضاعت لاجتثاث الترمبية من الثقافة السياسية الأميركية.
هذا الانقسام حول الترمبية هو الترمبية نفسها، بقدرتها على هدم كل التقاليد والأعراف وتجاوز كل التوقعات؛ حتى الأكثر تطرفاً منها.
ترمب باقٍ... والعرض مستمر!