حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

حكومة لبنان العتيدة: وصفة لخراب عميم!

حوالي 20 أبريل (نيسان) الماضي كانت كل المعطيات لدى الرسميين تفيد بأن البلوك «رقم 4»، يحتوي على كميات تجارية من الغاز، وبدأ القصر يحضر لائحة من الرسميين الذين سينتقلون إلى الموقع للإعلان عن الحدث. لكن قبل 72 ساعة من الموعد جرى تعميم معلومات مغايرة، وفي 26 منه أوقفت «توتال» أعمال الحفر، وحتى اليوم لم تقدم الشركة الفرنسية تقريرها النهائي. كما لم تبدأ التنقيب في البلوك «رقم 9» كما ينص العقد، وترددت معطيات لم تؤكد مفادها بأن ترسيم الحدود البحرية ينبغي أن يسبق التنقيب!
أبرزت الأشهر الماضية أن النظام الإيراني، المحاصر بالعقوبات، يرغب في بلورة الظروف الآيلة إلى عقد صفقة مع الأميركيين. كان من بين الدلالات القبول بحكومة مصطفى الكاظمي في العراق بعد ممانعة، إلى إطلاق أسرى في اليمن، ولبنانياً الإفراج عن مسألة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. فجأة إثر العقوبات الأميركية على الوزيرين السابقين فنيانوس وخليل، كشف رئيس مجلس النواب عن الاتفاق، ولاحقاً وفق التوقيت الأميركي الذي تزامن مع المعاهدات بين الإمارات والبحرين من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، تم الإعلان عن «اتفاق الإطار» للترسيم البحري. ومن لحظة الإعلان الذي تولاه الرئيس بري والعبارات المستخدمة: إسرائيل ولبنان والمصالح اللبنانية - الإسرائيلية، إلى طي صفحة قاموس الممانعة ومن ثم الرعاية الأميركية للمفاوضات، تأكد أن المسألة أبعد من اجتماع عسكريين من الجانبين في إطار اتفاقية الهدنة، بل هناك حدود معترف بها دولياً ترتب موجبات على الجانبين فتنتفي الذرائع لسلاح الدويلة!
من المعطى الجنوبي ودلالاته والقلق الكامن من مخاطر ما يمكن أن تكون عليه استراتيجية طهران، إلى تظهير حجم الانهيارات الداخلية نتيجة النهب والإفقار، وأخذاً بالاعتبار جريمة الحرب المرتكبة ضد بيروت يوم 4 أغسطس (آب) يقول المنطق إن لبنان بأمس الحاجة إلى حكومة حقيقية تتكئ على المبادرة الفرنسية من شأن وجودها تغيير المسار الانحداري وهو محصلة تضييع السيادة واستتباع البلد وارتهانه! لكن تبين أن لا شيء يؤرق المنظومة السياسية المتحكمة بالقرار اللبناني. لقد قفزت فوق كل المعطيات والانهيارات وبدأت التعاطي من زاوية أنه بمجرد تأليف الحكومة التي كُلِّف الحريري برئاستها ستُفتح الأبواب وسيتدفق الخير! وانخرط مروّجون في كيل المدائح للمكلف لجهة «مرونة» تعاطيه المغايرة لأداء مصطفى أديب!
من الصعب التسليم بأن التحالف السياسي المستأثر بالسلطة منذ 3 عقود، يجهل أبعاد التطورات العاصفة في الإقليم وما سينجم عنها، ويتعامى عن حجم الانهيارات المالية والاقتصادية وتفاقم الشرخ الاجتماعي مع اتساع البطالة والعوز وتقدم المجاعة، كما تداعيات وباء كورونا المتفشي بقوة. رغم ذلك تبدو أغلب الأطراف السياسية عند القراءة المتأنية لأدائها، في توافق ما، أن لا ضير من بقاء لبنان في حالة انتظار حتى يتبلور الوضع في المنطقة، وعليه ما من جهة تحرك ساكناً أمام النهج الممعن في اختطاف الدولة ووضع البلد في قلب محور الممانعة، وفي مقدمة قوى «المواجهة» مع أميركا!
صحيح أن الأطراف الدولية خيّبت المنظومة السياسية التي بادرت غداة 4 أغسطس إلى محاولة الاستثمار في الجريمة ضد الإنسانية تلك، باعتبارها «فرصة» لن تتكرر، لكنهم قفزوا فوق واقع عدم احترام العالم لهم، الذي تجاوزهم ومد اليد مباشرة إلى الناس المتضررين أصحاب العلاقة... وراكموا على متغيرات بسيطة، طرأت ارتباطاً بتلك الجريمة، كالحرص الخارجي على إغاثة سريعة تمنع عن لبنان سقوط حرٍ يتهدده، فبدأ تعميم أجواء تزعم أن هذه الحكومة ولو على طريقة محاصصة مستترة هي مفتاح كل الحلول!
تقول المساعي المرتبطة بتأليف الحكومة بتكرار الطريقة المجربة في التأليف وفق المنطق نفسه، رغم ما سيحمله ذلك من وصفة لخراب عميم! والمسألة تطال حجم الحكومة وتمثيل الأطراف السياسية وسقوط المداورة في الحقائب، والتسليم رغم التحدي بحصة وازنة لـ«حزب الله»! ما سيعني إدارة الظهر للمنطقة وخاصة دول الخليج، وعدم التوقف أمام مغزى التطورات المتسارعة، فكيف ستفتح الأبواب أمام لبنان مع بقاء تحكم طهران بمفاصل القرار اللبناني؟ يستحيل التسليم بأنهم لا يعرفون مواصفات «حكومة المهمة»، ومواصفات المرحلة، فيتمسكون بنهج اختطاف الدولة، وتكرار تجارب مدمرة كأن يعود إلى الواجهة من كانوا سبب الفساد والانهيار فيما لا جدوى إن لم تكن الحكومة من خارج المنظومة التي انتهت مشروعيتها.
رغم التجربة المريرة لحكومة حسان دياب، تكرس سريعاً تسليم الحريري كرئيس مكلف، بالتأليف شراكة مع ثنائي «أمل» و«حزب الله» من جهة، ومع القصر وتابعه «التيار الوطني» من جهة ثانية، مع رشة خداع حول الكفاءة والاختصاص! لتبدو الحكومة المرتقبة أشبه بمحاولة تغطية الفشل المدوي في إدارة البلد، إنْ من جانب القصر أو الثنائي الشيعي رغم تمكين «حزب الله» من رئاسة الجمهورية كما البرلمان والحكومة، ولم ينجم عن ذلك إلا الفشل الذي لا يُغطى. ويصرون على هذا المنحى رغم أن الثورة دمرت مشروعية الطبقة السياسية، بدليل الظاهر من انهيارات تحاصر التيار العوني وانكشاف دور «حزب الله» كمدافع عن نظام المحاصصة والحدود السائبة للتهريب بعدما أثبتت الثورة أنه جزء من منظومة الفساد.
منحى التحدي والاستخفاف بالناس وحقوقهم، وعدم السعي لانتشال البلد من الحضيض باعتماد نهج مغاير، أقله كي لا تضيع الثروة الموعودة، ما كان ليكون في مثل هذه الرعونة لولا الاستسهال في قراءة أحداث عامٍ كامل بعد (17 تشرين). صحيح أن منظومة الحكم سجلت نقطة لصالحها، مع تكليف الحريري «المتناغم» مع بري و«المنسجم» مع «حزب الله»، تأليف الحكومة وهو من أطاحت به الثورة قبل عام، لكن سيكون من باب عدم الدقة الاعتقاد بأن الزمن يمكن أن يعود إلى ما كان عليه قبل سنة... وما لغة الحريري بالذات عن وزراء اختصاصيين إلا الدليل على بدء مرحلة انتقالية بالغة الصعوبة.
كثيرةٌ الدلالات على الجديد، فقد خلقت الثورة شعوراً بالمواطنة وبلورت وعياً مختلفاً لدى جيل شبابي كامل، ردّ بالسخرية على التهديد بالحرب الأهلية، ووقف باللحم الحي يواجه القمع الرسمي والميليشياوي ومحاولات كم الأفواه. بفضل هذا الجيل نجحت الثورة في تعرية منظومة سياسية تمتلك السلطة والإعلام والمال وأدوات القمع، فأخرجتها من الفضاء العام وفرضت حجْراً سياسياً عليها، وأفشلت كل محاولات الاستخدام والتوظيف، وأظهرت بعد عام على انطلاقتها أنها النهر الذي ينظف نفسه من الأدران. المواجهة مع المنظومة السياسية وإسقاط حكومات التنكر للحقوق وللكرامات على أهمية ذلك وضرورته لم يعد كافياً، بل إن مسألة إعادة تكوين السلطة بات الهدف وهو نقطة التقاء الساحات، كي تتوفر الضمانة للمطالب وموجبات استعادة الجمهورية وحفظ السيادة، ولا أولوية عن استنباط الوسائل لبلورة البديل السياسي لفرض التغيير. ولن يتأخر زمن المساءلة والمحاسبة.