داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الحروب الغامضة حين تتحول إلى كوارث

كانت معركة «واترلو» التي دارت في يونيو (حزيران) عام 1815 قرب بروكسل عاصمة بلجيكا، هي آخر معارك الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت. وكانت هزيمة شديدة إلى درجة أن الإنجليز يصفون أي شخص يعاني من سوء الحظ الشديد أو هزيمة منكرة بأنه «صادف واترلو». وكانت معركة «ستالينغراد» في الاتحاد السوفياتي معركة فاصلة في الحرب العالمية الثانية دارت في عام 1942 وسجلت بداية نهاية نظام المستشار الألماني أدولف هتلر. القرار الخاطئ في الحالتين أدى إلى هزيمتين تاريخيتين تدرسان في الأكاديميات العسكرية العالمية. كانت معركتا واترلو وستالينغراد «حربين محدودتين» في هدف واحد ثبت أنهما اختياران خاطئان في وقتين خاطئين.
في يوم شتوي بارد جداً من عام 1981، كدت أكرر أخطاء نابليون بونابرت وأدولف هتلر حين وجدت نفسي محاصراً مع سائق غشيم في سيارة يابانية ذات دفع رباعي تحملني إلى الجبهة الوسطى من الحرب العراقية - الإيرانية لتغطية جانب من تلك الحرب، كما فعل مراسلون عراقيون وعرب وأجانب كثيرون. لقد حوصرنا وسط سيل من المياه، في وادٍ عميق يفصل بين جبلين؛ أحدهما عراقي والآخر إيراني، بعيداً عن أقرب مدينة عراقية بساعتين في طريق غير آمنة. وهذا المأزق كوم، وقذائف المدفعية والهاونات المتبادلة بين الجانبين عبر الوادي فوق سيارتنا العالقة في يوم آخر من أيام الحرب العراقية - الإيرانية كوم آخر.
صعدت المياه إلى كراسي السيارة اليابانية، ومع ذلك كان محركها دائراً، لكن عجلاتها لا تستطيع التزحزح من مصيدة حجرين كبيرين لم يرهما السائق وهو يسير فوق طريق حصوية تغطيها مياه السيول. قلت للسائق: «ما العمل؟ جاءك الموت يا تارك الصلاة»! رد السائق ببرود: «ننتظر أول سيارة أو مدرعة أو دبابة عراقية لتسحبنا من هذه الورطة». كانت القذائف والانفجارات لا تتوقف، وتذكرت أن قائداً عسكرياً عراقياً قال لمجموعة من الصحافيين العرب الضيوف والعراقيين في بدايات تلك الحرب التي استمرت ثماني سنوات: «إذا سمعت صوت الانفجار فاعلم أنك لم تمت»! ومعنى ذلك، طبعاً، أنك قتيل إذا لم تسمع الانفجار! واعتمدت على هذه النصيحة الاستراتيجية، وشعرت بعودة الروح لأنني لا أزال أسمع الانفجارات، إلى أن مرّ «لوري» عسكري وسحبنا نصف متر كان كافياً للانتصار على أخطاء نابليون وهتلر!
على أي حال، ليس مثل الحرب ما يعلمنا قيمة السلام. فما أسهل أن تتحدث عن الشجاعة والبطولة وأنت بعيد عن أرض المعركة.
بين يدي كتاب إنجليزي ليس جديداً في طبعة إيطالية أنيقة وعنوانه «حرب» لمؤلفه البريطاني روبرت غرين، يعرض فيه 33 نصيحة استراتيجية في أي حرب. وهو كتاب اختارته أكثر من صحيفة بريطانية ضمن قوائم أكثر الكتب مبيعاً. وأحسن ما في هذا المطبوع أنه صغير الحجم وبحدود 200 صفحة من القطع الصغير يشبه كتب الجيب السياحية. أي بإمكانك أن تضعه في جيبك وتذهب لخوض أي حرب بلا قنابل أو كلاشنيكوف. وأفتح قوساً هنا لأقول إن كل جيوش العالم تُعلّم جنودها قبل كل شيء كيف يمشون على إيقاع «يس... يم» أو «شمال... يمين». إلا أن هذا الدرس النظامي ليس للعسكريين فقط، وإنما هو نصيحة عملية ناجحة لكل ميادين الحياة. لا أحد يكره «النظام» سوى الفوضويين. النظام في كل شيء من طوابير الخبز إلى طوابير السينما.
وأعود إلى الـ33 نصيحة استراتيجية التي تضمنها الكتاب، وأنا جعلتها 34 بإضافة نصيحة «إذا سمعت صوت الانفجار فاعلم أنك لم تمت». وأرجو ألا تعتبرني نفيراً أو نذيراً للحرب، فأنا مثلك رجل سلام، لكن الفرق بيني وبين نيلسون مانديلا أنه نال جائزة نوبل للسلام، بينما نلت أنا ورقة لجوء صفراء لا قيمة لها من الأمم المتحدة. فهذا الكتاب الصغير في عدد الصفحات هو دليل شامل للعبة الحرب التي نخوضها في حياتنا كل يوم، كما يقول المؤلف، يستند إلى دروس مستمدة من النصوص السياسية والفلسفية والدينية، مع أمثلة تاريخية منذ نابليون إلى مارغريت ثاتشر مروراً بقبائل الزولو الأفريقية واللورد البحري البريطاني نيلسون ورجال الأعمال والصناعة والساموراي والدبلوماسيين. إنه كتاب تقول دعايته إنه يوفر لك «الذخيرة النفسية للتغلب على الفشل»!
النصائح: أعلن الحرب على أعدائك. لا تخض الحرب الأخيرة. لا تفقد عقلك وسط الأحداث العنيفة. اخلق إحساس الطوارئ والموت. تجنب فخ فكر المجموعة. جزئ قوتك باستخدام الفوضى المنظمة. اجعل حربك من أجل قضية عادلة. اختر معاركك بعناية. اقلب الطاولة في الهجوم المضاد. هدد وتوعد ضمن الاستراتيجية الرادعة. قايض المكان بالزمان وهي استراتيجية عدم الاشتباك. اخسر معاركك ولكن اربح الحرب. اعرف عدوك. استخدم استراتيجية الحرب الخاطفة. سيطر على القوة المحركة. اضرب على الوتر الحساس. اهزمهم بسياسة فرق تسد. افضح معارضيك وهاجمهم. حاصر عدوك. ناور لتسخين الحديد. تفاوض وتقدم. ضع استراتيجية للخروج أو الانسحاب. امزج بين الحقيقة والخيال. اتّبع أبعد التوقعات الاستراتيجية العادية والاستثنائية. احتل أرض الحق. امنعهم من الوصول إلى الأهداف. تناول لقماً صغيرة في استراتيجية الأمر الواقع. اخترق عقول الآخرين. دمرهم من الداخل. ضع استراتيجية للتحالف لتعزيز مصالحك الشخصية. ازرع الذعر والشك. وقدم لخصومك الحبل الذي يشنقون به أنفسهم.
نسيت أن أقول لك نصيحة أخيرة برقم 34 قالها ضابط ساخر في فيلم كوميدي فرنسي: «جبان جبان بس أعيش»!
يتساءل المؤرخ العسكري الأميركي دونالد ستوكر في كتاب مثير للجدل: «لماذا تخسر أميركا الحروب المحدودة»؟ وهو يحلل تحت هذا العنوان أسباب الفشل الأميركي في هذا النوع من الحروب، بدءاً من الحرب الكورية في بداية الخمسينات من القرن الماضي وانتهاء بغزو العراق في 2003. ولأهمية هذا الكتاب، اعتبر بعض المحللين أن قراءته «فرض» ليس على دارسي التاريخ العسكري الدبلوماسي الأميركي، ولكن على القادة السياسيين والعسكريين المكلفين تطوير سياسة الأمن القومي الأميركي. في عصرنا الحالي، خاضت الولايات المتحدة تجارب حروب محدوة وأخرى غير محدودة، منذ الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية، فحرب كوريا ثم حرب فيتنام وآخرها حرب غزو العراق. يقول الجنرال والباحث العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز: «الحرب ليست سوى استمرار للسياسة، ولكن بوسائل أخرى». ومعظم هذه الحروب كانت هزائم. حتى انتصار الولايات المتحدة في غزوها العراق عام 2003 كان انتصاراً مراً ومريراً ما زالت تعاني منه حتى اليوم.
وما يهمنا هنا هو كيف تحول العراق بعد غزوه اللاشرعي في عام 2003 من هدف سياسي محدود لتغيير النظام، إلى «هدف غير محدود»، غير واضح المعالم وغير محدد زمنياً للحفاظ على النظام الجديد الفاسد المدعوم من واشنطن. وما قاله الرئيس الأميركي بوش الابن بعد الغزو بأسابيع من أن «المهمة أُنجزت» تبين بعد 17 عاماً من الفشل الأميركي المتلاحق أن المهمة لم تنتهِ ولم تنجز. وما زالت المهمة أساساً وبعد كل هذه السنوات غامضة. بل إنها أدت إلى فشل مفضوح حين سلمت العراق في احتفال رسمي إلى إيران عبر العملاء الموالين لنظام الملالي.
لا أحد يجادل في أن أخطاء الحروب تتحول إلى كوارث، والمثال الشاخص هو دولة العراق الفاشلة اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً.
أعود مرة أخيرة إلى نابليون، فقد قال: «الحكومة التي يحميها أجانب لن يقبلها أبداً شعب حر». هل كان إمبراطور فرنسا يعني بكلمته حكومات الاحتلال في العراق؟ وهو نفسه الذي قال، يا للمصادفة: «أيها المواطنون؛ ارموا هؤلاء النواب خارجاً... ارموهم في القمامة».