كان الطبيب الأميركي دونالد إيه هندرسون رجلاً عظيماً حيث كان خبيراً في الإرهاب البيولوجي (هو الإطلاق المتعمد للفيروسات أو البكتيريا أو المواد السُّمّية أو غيرها من العوامل الضارة الأخرى لتسبب المرض أو الوفاة للبشر أو الحيوانات أو النباتات)، وكان عميداً لما يعرف الآن بكلية بلومبرغ للصحة العامة بجامعة جونز هوبكنز، ومستشاراً لعدة رؤساء للولايات المتحدة، كما اشتهر هندرسون بكونه الرجل الذي قضى على مرض الجدري في السبعينات، وقد كانت معرفته بالأمراض المعدية غير مسبوقة.
وفي منتصف القرن الماضي عندما كان مجتمع الصحة العامة في الولايات المتحدة يحاول وضع برنامج لمكافحة الأوبئة، كان هندرسون، الذي توفي في 2016 عن عمر يناهز 87 عاماً، في خضم هذه المحاولات، وقد أثارت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 مخاوف من الإرهاب البيولوجي، وكان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش يدفع مسؤولي الصحة العامة في البلاد إلى وضع خطة استعداد يمكنها أن تصبح موضع التنفيذ في حال انتشر فيروس جديد، وذلك بعد أن قرأ كتاب جون إم باري عن جائحة الإنفلونزا الإسبانية 1918 بعنوان «الإنفلونزا الكبرى».
ولم تكن بعض الحلول المقترحة حينها مثل الغسل المتكرر لليدين وتتبع المخالطين ووضع المرضى في حجْر صحي، سبباً لإثارة الجدل، ولكن أحد الحلول المقترحة تسبب في إثارة نقاش حاد: الإغلاق، حيث لم يكن قد تم استخدام هذا الحل كاستجابة لوباء منذ العصور الوسطى، وقد كان على أحد جوانب النقاش بعض العلماء، الذين طلبت منهم إدارة بوش التوصل إلى رد مناسب في حال انتشار وباء، يفضلون فرض الإغلاق، ولكن على الجانب الآخر كان هناك هندرسون.
وفي ورقة كتبها في 2006 مع 3 آخرين من زملائه، خلص هندرسون إلى أن عمليات الإغلاق من المرجح أن تضر أكثر مما تنفع، مؤكداً أنها تؤدي إلى حدوث «اضطرابات كبيرة في الأداء الاجتماعي للمجتمعات، كما أنها تؤدي إلى مشاكل اقتصادية كبيرة محتملة»، وأشار إلى أنه بالإضافة إلى ذلك فإنه ليس هناك دليل على أن عمليات الإغلاق قد قللت من عدد ضحايا الفيروسات المعدية في السابق.
ويبدو من الواضح أن هندرسون قد خسر هذا النقاش حينها، لكن الآن، بعد مرور 7 أشهر على انتشار وباء فيروس «كورونا المستجد» الحالي، فإنه يبدو أن العالم يقترب من تبني وجهة نظره، حيث كان الضرر الاقتصادي الناجم عن عمليات الإغلاق هائلاً، كما تسبب إغلاق المدارس في أضرار لا تحصى للطلاب، وخاصة الفقراء منهم، وهذا الصيف، بات نحو 20 في المائة من القوة العاملة الأميركية في حالة بطالة، وذلك وفقاً لمجلة «فوربس» الأميركية، ولا تزال مسألة ما إذا كانت عمليات الإغلاق قد أنقذت أي أرواح غير معروفة حتى اليوم منذ 2006.
في الأسبوع الماضي، أجرت قناة «سبيكتاتور» البريطانية مقابلة مع الدكتور ديفيد نابارو، المبعوث الخاص لمنظمة الصحة العالمية بشأن (كوفيد – 19)، وقد كانت منظمة الصحة العالمية مدافعاً مهماً عن عمليات الإغلاق في الأيام الأولى لانتشار فيروس «كورونا»، واتبعت الكثير من دول العالم نصائحها في تنفيذ ذلك، لكن عندما سأل المذيع أندرو نيل نابارو عن عمليات الإغلاق، أجاب: «نحن في منظمة الصحة العالمية لا ندعو إلى الإغلاق كوسيلة أولية للسيطرة على هذا الفيروس، والوقت الوحيد الذي يكون فيه الإغلاق مبرراً هو حينما يكون هناك رغبة في توفير الوقت لإعادة تنظيم وتجميع الموارد وحماية العاملين الصحيين المنهكين.. انظر إلى ما يحدث لمستويات الفقر في العالم، حيث يبدو أن معدل الفقر العالمي قد يتضاعف بحلول العام المقبل، وعلى الأقل قد يتضاعف مستوى سوء التغذية للأطفال، وعلينا أن نتذكر أن عمليات الإغلاق يكون لها نتيجة واحدة فقط وهي أنها تجعل الفقراء أكثر فقراً بكثير، وهو الأمر الذي يجب عدم الاستهانة به أبداً».
ومن دون الاعتراف بأن هذا يعد بمثابة التحول في موقف المنظمة الأصلي، قال نابارو إن منظمة الصحة العالمية تدعو الآن إلى ما سماه «المسار الأوسط» الذي يتمثل في «كبح جماح الفيروس مع الحفاظ على استمرار الحياة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي»، وهو الأمر الذي يتطلب مستوى عالياً من التنظيم من قبل الحكومات ومشاركة من جانب المواطنين، وقد يعني ذلك وجود تتبع واسع للمخالطين، وعزلاً لأولئك الذين كانوا على اتصال بشخص مصاب، وأخذ مسألة ارتداء الأقنعة الواقية والتباعد الاجتماعي على محمل الجد، وقال نابارو: «إذا تمكنا من الجمع بين هذه الخطوات، فإنه سيكون بإمكاننا مواجهة هذا الفيروس».
ولا شك في أن نابارو كان على حق فيما قاله، ولكن للأسف الحصول على هذا النوع من التنظيم الحكومي والالتزام الجماهيري هو أمر مستحيل على المستوى العملي في الولايات المتحدة في الوقت الحالي، وذلك بالنظر إلى وجود الملايين من الأميركيين الذين يرفضون حتى الالتزام بالإجراء الأساسي وهو ارتداء القناع الواقي، ومع ذلك، فإنه إذا كانت هناك موجة ثانية كبيرة من فيروس كورونا، فإن فرض إغلاق آخر سيكون خطأ فادحاً، فبالإضافة إلى الأضرار الاقتصادية والاضطرابات التي قد يتسبب فيها، فإنه سيؤدي أيضاً إلى حدوث مقاومة هائلة من قبل الجماهير، كما أنه سيخلق المزيدَ من عدم الثقة بنصيحة الحكومة بشأن الأوبئة، وما علينا سوى سؤال الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الساخنة في نيويورك التي أغلقها الحاكم أندرو كومو مؤخراً، حيث باتوا في ثورة مفتوحة الآن.
والحقيقة هي أنَّ استخدام عمليات الإغلاق لوقف انتشار فيروس كورونا لم يكن فكرة جيدة أبداً، وإذا كان لدى الإغلاق أي فائدة على الإطلاق فإنها ستكون فائدة قصيرة المدى فقط، وهي للمساعدة في ضمان عدم إرهاق المستشفيات في المراحل المبكرة من انتشار الوباء، لكن الإغلاق الطويل الأمد للمدارس والشركات، والإصرار على بقاء الناس في منازلهم، وهي الأمور التي تم فرضها في كل الدول تقريباً في وقت أو آخر، كانت بمثابة سياسة عامة مضللة بشكل كبير، ومن المحتمل أنه عندما يتم سرد تاريخ هذا الوباء، فإنه سيتم النظر إلى عمليات الإغلاق باعتبارها واحداً من أسوأ الأخطاء التي ارتكبها العالم في وقتنا الحالي.
وكتب هندرسون وزملاؤه في ورقتهم البحثية في 2006: «أظهرت التجربة أن المجتمعات التي تواجه الأوبئة أو غيرها من الأحداث تستجيب بشكل أفضل وبأقل قدر من القلق عندما يكون الأداء الاجتماعي الطبيعي للمجتمع أقل اضطراباً، كما أن وجود قيادة سياسية وقيادة للصحة العامة قوية هي أيضاً عناصر حاسمة، وفي حال كون أي منهما دون المستوى، فإنه يمكن أن ينتقل الوباء، الذي كان من الممكن التحكم فيه، نحو الكارثة»، يبدو أنه كان يجب أن نستمع إلى كلام هندرسون طوال الوقت.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:48 دقيقه
TT
الإغلاق لوقف انتشار الفيروس فائدته قصيرة المدى
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة