أندرياس كلوث
خدمة «بلومبيرغ»
TT

طول أمد الوباء يجعله أكثر ترويعاً

«العقابيل»، أو «الاعتلال الدماغي»، أو «فقدان حاسة الشم» من المصطلحات الطبية المتخصصة التي قد لا تعني للقارئ العادي أي شيء ما لم يكن دارساً لإحدى اللغتين اللاتينية أو اليونانية، أو طالباً ملتحقاً بإحدى كليات الطب. بيد أن هذا المعنى يبدو على وشك التغيير في الظروف الراهنة، لا سيما إن كان القارئ يحاول مواكبة الأدبيات العامة ذات الصلة بفيروس «كورونا» المستجد والوباء المنتشر في كل مكان. وإن كنت معنياً بالأمر مثلي، فكلما توسعت في الاطلاع ارتفعت حدة القلق لديك.
تعني لفظة «عقابيل» الآثار الثانوية اللاحقة على المرض. وتعني لفظة «الاعتلال الدماغي» المرض الذي يصيب المخ. بيد أن لفظة «الضباب الدماغي» هي الأثر المرضي الثانوي اللاحق على مرض «الاعتلال الدماغي»، أو ربما يتحول إلى حالة مرضية قائمة بذاتها وطويلة الأمد، لا سيما مع ملاحظة الإصابة المسبقة بفيروس «كورونا» المستجد. ومن الأضرار الثانوية اللاحقة الأخرى هناك الاعتلال اللاحق بالقلب، أو بالرئتين، أو بالجهاز العصبي، ذلك فضلاً عن الآلام العامة أو الشعور بالإجهاد. ومن بين العواقب الأخرى المحتملة نجد «فقدان حاسة الشم» أو «فقدان حاسة التذوق» لدى كبار السن، وغير ذلك الكثير.
لم يمر بين أيدينا عام كامل على دراسة فيروس «سارس كوف 2»، وبرغم ذلك لا تزال المفاجآت تواصل الاصطدام بحياتنا الواحدة تلو الأخرى. وبالنسبة لي شخصياً، فإن فيروس «كورونا» المستجد هو أكثر تلك المفاجآت رعباً حتى الآن. فعلى العكس تماماً من سلالات الفيروسات الأخرى من العائلة نفسها، من شاكلة نزلات البرد العادية أو أغلب حالات الإنفلونزا الموسمية، يبدو أن فيروس «كورونا» قد راقت له الأوضاع الراهنة، ويرغب في البقاء لمدة أطول من الزمن بين ظهرانينا.
وليس من المعلوم على وجه الدقة كم من الوقت سوف تلازم هذه الأعراض اللاحقة أجسامنا. وكانت إحدى الدراسات الألمانية ذات الصلة قد أظهرت أن هناك حوالي اثنين من كل ثلاثة مرضى يعانون من أعراض التهاب القلب بعد مرور 71 يوماً من التعافي من الإصابة بفيروس «كورونا» المستجد. وخلص عدد من الباحثين الآخرين إلى أن العديد من الأشخاص يعانون من أعراض تلف الرئتين بعد مرور ثلاثة شهور على التعافي من الفيروس. رغم أن هذا الوباء الراهن لم يبلغ عامه الأول بين أظهرنا بعد.
إنَّ ما نسعى إلى معرفته هو كيف سوف تنتهي الأوضاع الصحية بكل هؤلاء الأشخاص في غضون خمس سنوات من الآن، أو ربما بعد مرور عشرين سنة على زوال الوباء. هل سيتنفسون بسهولة، أو يمارسون رياضة الركض بسلاسة، أو يفكرون بسلامة، أو يتذوقون المشروبات على النحو المعتاد؟ سوف ينبغي علينا انتظار إجراء تلك الدراسات والوقوف على نتائجها. لكن ما الذي تعنيه حالة انعدام اليقين البالغة والراهنة في العام الجاري بالنسبة إلينا جميعاً؟
هناك أمر واحد مؤكد، ألا وهو أنه ليس باستطاعتنا التركيز على معدلات الوفيات بكل بساطة عند تقييم مخاطر فيروس «كورونا» المستجد الحالية. وعلى مدار أغلب شهور العام الجاري، كان الشباب الأصغر سناً والذين لم يعانوا من القيود والظروف القاسية المعتبرة راهنا، لم يجابهوا فيروس «سارس كوف 2» السابق. وبعد كل شيء، وكما أفهم الأوضاع على طبيعتها، فمن المحتمل أنني سوف أنجو رفقة أطفالي. ولسوف نتخلص من الوباء بعد ذلك، ونحظى بقدر من المناعة لبعض الوقت، أليس كذلك؟
إن طول أمد وباء «كورونا» المستجد يتحدى هذا الطرح المنطقي في عنفوان بالغ. فهل من المرجح أن يساورني المزيد من القلق اعتباراً من الآن؟ وما هي الطريقة السليمة للتفكير في كل تلك المجريات من حولنا؟
ما دام أثار ذهولي حالة العجز المؤكدة لأبناء الجنس البشري عن تقييم المخاطر بصورة منطقية سليمة. كان العديد من علماء النفس - أمثال دانيال كانيمان وعاموس تفيرسكي - يحاولون بصورة هزلية مثيرة للسخرية توثيق كيف يواصل الإنسان السقوط في شراك الفخاخ العقلية التي تنصبها لنا الحياة بصفة يومية. إذ نشعر بالذعر والهلع بصورة شبه منتظمة عند مجابهة المخاطر التافهة، ونتجاهل في حمق خطير غيرها من المخاطر الجسيمة التي تحدق بحياتنا.
من الناحية الشخصية البحتة، دائماً ما أثار دهشتي أن الكثير من الناس يخافون للغاية من الإشعاع المنبعث من الهواتف المحمولة التي لا تفارق أيديهم، سيما مع العبث المثير للبهجة بهواتف آيفون الحديثة أثناء قيادة السيارات. ومن الواضح أن مخاطر إشعاعات الهواتف المحمولة طفيفة للغاية (نظرا لأن هذه الإشعاعات غير مؤينة) عند المقارنة بالمخاطر الجسيمة للعبث بالهواتف نفسها أثناء قيادة السيارات، ذلك لأنَّ أدمغة البشر لا تستطيع التعامل الإدراكي مع التشتت والإلهاء للهواتف المحمولة، أثناء الانتباه والتركيز على قيادة السيارات في آن واحد.
ومع ذلك، فإن الخطرين المذكورين يطرحان أنفسهما وإنما بصورة مختلفة تماماً، إذ إنَّ إشعاع الهواتف المحمولة غير مرئي بالنسبة لنا، وهو يسبب أعراضا داخلية ربما تتضح - أو لا تتضح - مع مرور الوقت، سيما وأننا لا نشعر بأي قدر من التحكم أو السيطرة عليها مطلقاً. أما تأثيرات القيادة المشتتة للسيارات فهي من المخاطر المُعاينة، والمرئية، وذات طبيعة فورية: فإما أن نتسبب في حادثة مروعة وإما لا نتسبب فيها. ولدينا شعور لازم بالتحكم والسيطرة على ذلك، نظراً لأنَّنا وبعد كل شيء، لم نتعرض لحادثة سير أو اصطدام بسيارة بالأمس أو باليوم السابق عليه.
ومن الناحية النفسية المجردة، يمكن القول إن فيروس «كورونا» المستجد «قصير» أو «طويل» الأمد يحمل سمات متشابهة. فعندما أعتقدت في بادئ الأمر أنه فيروس غير مؤين قصير الأمد وثنائي الطبيعة - بمعنى إما أنك مصاب به وإما لم تعد مصاباً به أبداً - كان ذلك الاعتقاد أشبه ما يكون بالقيادة المشتتة للسيارة: من واقع ارتداء كمامة الوجه الواقية والاستمرار في غسل الأيدي بنفس الطريقة التي أشد بها حزام الأمان في سيارتي، وأواصل القيادة تحت تأثير الوهم بالتحكم والسيطرة الكاملة على الأوضاع.
وبالتالي، بدت احتمالات الإصابة بفيروس «كورونا» المستجد «طويل» الأمد أشبه ما تكون بخشية التعرض لإشعاعات الهواتف المحمولة غير المؤينة طفيفة الأثر - أو بالتعرض لعنصر الرصاص في الأدوات المكتبية التي لا تفارقنا أو غير ذلك من السموم الهزيلة الأخرى في حياتنا اليومية، والتي تتسلل إلى أجسادنا خلسة، وتبقى هناك لتسبب أضراراً لا يمكن إدراكها مع مرور الوقت. ولكنني، بصفة شخصية، أشعر بمزيد من السوء حيال الأمر برمته بسبب فقداني الواضح لوهم التحكم والسيطرة. وعلى العكس تماماً من إشعاعات الهواتف المحمولة غير المؤينة، فإنَّ فيروس «كورونا» المستجد «طويل» الأمد قد يكون من المخاطر القاسية للغاية في واقع الأمر.
لقد سبقت لي الكتابة عن فيروس «كورونا» المستجد في يناير (كانون الثاني) من العام الجاري، ولم تتوافر لدينا في ذلك الوقت المعلومات الكافية عن الفيروس ولا حتى عن اسمه العلمي المعروف به حاليا. ومنذ ذلك الحين، هالني سوء التفكير الفظيع بشأن حالة التناقض الكبيرة بين بعضنا البعض حول كيفية التعامل السليم مع هذا الوباء الفتاك: هل نفرض الإغلاق العام أم لا؟ هل نرتدي الكمامات الواقية أم لا؟ هل نفتح المدارس والجامعات للدراسة أم لا؟ وما إلى ذلك من تلك الترهات المريعة.
ومرجع ذلك إلى أننا لا نعرف على وجه التحديد كيفية موازنة المخاطر ذات الصلة بالأزمة الراهنة. حالة التردد السقيمة ما بين خطر الموت المباشر في مقابل الخطر الذي أنقله لكي يموت أحدهم. أو الخطر المتمثل في السقوط في هوة الفقر الاقتصادي المريعة في مقابل بذل الكثير من الجهود الصارمة من أجل احتواء ووقف انتشار الفيروس الفتاك - 150 مليوناً وفقاً لتقديرات البنك الدولي حتى الآن ممن يُعتقد بتعرضهم للمعاناة الشديدة وربما الوفاة بعد ذلك من عرض أو مرض مختلف تماما. أو ربما مخاطر محاولة إنقاذ حياة الناس في الوقت الذي نحكم فيه بالاكتئاب على أناس آخرين للدرجة التي تكون الحياة معها أشبه بالمحال.
إدراك أن فيروس «كورونا» المستجد يمكن أن يتحول إلى مرض مزمن لا يفارقنا لفترة طويلة من الزمن يجعل من كافة القرارات المتخذة في السابق أكثر صعوبة على التنفيذ، نظراً لأنه يضيف إليها معضلات ومخاطر أخرى أكثر قسوة. وبات لزاماً علينا الآن موازنة المخاطر الراهنة ليس من زاوية الأرواح المزهقة فحسب، وإنما من زاوية الأرواح ذات الفترة الزمنية المحدودة بصورة دائمة. ليست لدي إجابات يسيرة على كل تلك الإشكاليات. ولكنني أشعر بقلق عميق يراودني بشأن فيروس «سارس كوف 2» الآن أكثر مما كنت عليه في الماضي.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»