حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

العنف... من يتحمل المسؤولية؟

مع كثرة الحديث عن موضوع السلام في منطقة الشرق الأوسط، يأتي معه وبشكل تلقائي وطبيعي للغاية موضوع تاريخ العنف والحرب والدم في المنطقة نفسها تحديداً، وفي العالم بشكل عام.
منطقة الشرق الأوسط عرفت تاريخياً بأنها المنطقة التي وصفت بأنها مهد الحضارات والثقافات والأديان.
وقديماً كما اليوم يعجّ العالم بأعداد لا تنتهي من الأحداث الدموية المرعبة التي ترتكب باسم الدين، ما يطرح سؤالاً محورياً ومهماً للغاية، وهو؛ هل الأديان هي بالفعل تعتبر المصدر الحقيقي والأساسي والفعلي للقتل والعنف والكراهية والتطرف والحرب؟ وهذا ليس بسؤال جديد أبداً، فلقد طرح منذ القدم، وحاول عدد كبير من الباحثين المرموقين والمحترمين تناوله من شتى الاتجاهات والإجابة عليه بشكل كامل. كانت آخر هذه المحاولات للباحثة والمؤلفة البريطانية المرموقة كارين إرمسترونغ في كتبها المهم والمدهش بعنوان «حقول الدم... الدين وتاريخ العنف»، وهو الكتاب الذي تقوم المؤلفة فيه باستعراض خطاب وأعمال العنف المنسوبة إلى الدين عبر الغوص في أسباب ودوافع معقدة وعناصر سياسية واقتصادية واجتماعية شديدة الترابط والتشابك التي عادة ما توصف بها وقائع العنف التي يتم وصفها بالدينية، سواء أكانت معظم الحروب الأوروبية أم الحركات الجهادية ومن هي على شاكلتها.
وبالتالي يصبح من الضروري «فصل» الدين عن الأسباب الحقيقية لنشوء هذه الظاهرة والتركيز على أهمية إبراز الأسباب الاقتصادية والسياسية. وهي تؤكد في نفس الوقت أن العنف مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالطغيان والاستبداد، ويدعم هذا الفكر السياق التاريخي لنماذج متنوعة من الحضارات القديمة، مثل الإغريقية والرومانية والهندية والصينية، وصولاً إلى عصور الإقطاع واستغلال ملاك الأراضي للمزارعين إلى مذابح الثورة الفرنسية والحربين العالميتين إلى أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وكل ما حصل بعدها ولا يزال يحصل حتى الآن. وهناك مدرسة نقدية ترى أن العالم العربي والإسلامي وقع أسيراً ضعيفاً لسردية ووصفية نمطية لتكون صورة المنهزم في الذهنية الغربية، وهي الصورة التي شرحها بشكل مميز واستثنائي المفكر الأميركي الفلسطيني الأصل البروفسور الراحل إدوارد سعيد في كتابه الأشهر «الاستشراق» وهي فرضية رفضها وقاومها واعترض عليها بشدة المفكر الأميركي السوري الأصل في كتابه المميز «قصور الاستشراق... منهج في نقد العلم الحداثي»، فهو يقدم أسباباً جوهرية في صراع المنطقة مع الحداثة، والتي حوّلتها لحالة خصومة مع منابع الحداثة، وبالتالي تولد الخطاب العدائي والعنيف بحسب المؤلف.
تحميل الأديان «عبء» الدم ومسؤوليته مسألة ليست سهلة أبداً في ظل الغياب التام للمراجعات التاريخية الحقيقية والكاملة والموضوعية التي ستمكن المؤرخين من تقييم الأحداث والمراحل والشخصيات والسردية بلا قدسية ولا حساسية. وهناك قناعة متزايدة في الأوساط العلمية المعنية بالتاريخ أن السياسة بشكل عام (بشقيها الديني والحداثي العلماني) تتحمل الخلاصة التي تقول إن العنف الدموي هو ابن السياسة حتى لو كانت السياسة تتغطى بعباءة القداسة الدينية وترفع أنبل الشعارات وأصدقها، هي في النهاية تبقى مشروعاً سياسياً صرفاً. وهذا أيضاً ما توجه إليه طه باقر الباحث التاريخي العراقي في كتابه الكبير والمهم «مقدمة تاريخ الحضارات القديمة»، الذي ذكر فيه وقائع شتى ليثبت بها أن العنف هو نتاج سياسي في المقام الأول. إلا أن كل ما سبق لم ينفِ وجود سرديات تراثية تمجد الكراهية والعنف والقتل وتجعل من مرتكبيها أصحاب فضيلة، ولم ينجُ أتباع أي دين من هذا الاتهام. وهذا تماماً الذي جعل من كتاب «صدام الحضارات» للمؤرخ الأميركي الكبير صاموئيل هاننجتون كتاباً مثيراً للجدل، لأنه لامس هذه النقاط تحديداً.
السلام مرحب به ولا شك، وبقدر الترحيب به مطلوب مناقشة أسباب العنف والكراهية والقتل التي تولد الحروب، لأنها قد تكون المفتاح الأهم للسلام الأعمق والأهم. العنف ولد مع الإنسان منذ القدم، واستمرت أسبابه في التصاعد بشكل مستمر ومخيف، وعليه فإن الصراع الأزلي بين السلام والحرب هو مرآة للصراع بين الخير والشر الذي لا يمكن التعامل معه إلا بعد معرفة أسبابه. كل أسبابه، بشكل موضوعي وحقيقي فيه احترام للعقل، وتحقيق للمقصد.