علي المزيد
كاتب وصحفي سعودي في المجال الاقتصادي لأكثر من 35 عاما تنوعت خبراته في الصحافة الاقتصادية وأسواق المال. ساهم في تأسيس وإدارة صحف محلية واسعة الانتشار والمشاركة في تقديم برامج اقتصادية في الإذاعة السعودية، ومدير التحرير السابق لصحيفة الشرق الأوسط في السعودية وهو خريج جامعة الملك سعود.
TT

خيار لا بديل

مرت العملية التعليمية منذ أقدم العصور بمراحل مختلفة حتى رست مبادئها منذ الرومانيين والهنود على أربعة مبادئ: المكان والمعلم واللوح والطالب، ومع الاختلاف الجزئي في مرحلة فإن المبادئ الأربعة ظلت ثابتة.
ومع ازدهار حضارة العرب والمسلمين استمرت هذه الأركان الأربعة قائمة عبر ما يعرف بـ«الكتاتيب»، وجرى تطور طفيف على هذه العملية التعليمية في زمن العرب يمكن تسميته بالانتساب أو التعليم عن بعد، وهو أن يتعلم الطالب بطريقته ولكنه في نهاية المطاف لا بد أن يختبر على يد شيخ معتمد في علم معين هو المخول بأن يمنحه الشهادة أو يخرجه كما نقول في زمننا هذا، وهي في ذلك الوقت كانت تسمى «الإجازة»؛ أي أنه ممتحن ومجاز، أي ناجح على يد شيخ معتمد في علمه.
لم تتغير العملية في زمننا كثيراً، فظهر ونحن في المرحلة الثانوية وما قبلها ما يسمى بـ«المنازل»، حيث يدرس الطالب في منزله ويأتي ليمتحن معنا، وكان أغلب طلاب المنازل من الموظفين، وكانوا يحظون بمعاملة خاصة من المدرسين بوصفهم مكافحين.
وفي الجامعات هناك ما يعرف بالانتساب، أي ينتسب الطالب إلى الجامعة ويدرس في بيته ويختبر في المدرجات الجامعية مع المنتظمين، وهو أسلوب تعرفه جميع الجامعات العربية، ولعل الجامعات العربية عرفت خللاً في هذا النوع من التعليم فاستبدلته بما يعرف بالانتساب الجزئي، وهو يتطلب حضوراً معيناً من الطالب المنتسب.
جائحة كورونا أجبرت وزراء التعليم العرب على اتخاذ قرار التعليم عن بعد بسبب الجائحة، وهذا أمر مفهوم ومبرر، وكنت قد كتبت في هذه الصحيفة أنه ربما أصبح التعليم عن بعد مطلباً وليس إجباراً تجبرنا عليه ظروف معينة، ومن أهم هذه الأسباب التي تدفع للتعليم عند بعد، الوقت والحفاظ عليه، وتقليل الرحلات المرورية من البيت إلى المدرسة والعكس، والأهم من هذا كله تخفيض تكاليف العملية التعليمية التي ترهق الأسر... التعليم عن بعد سيجعلنا نتعرف على المعلم الجيد ونستبعد المعلم السيئ، وتسجيل الدرس سيجعل الطالب قادراً على مراجعته في أي وقت ودون إرهاق المعلم. الدراسة عن بعد ستجعل تزاحم الصفوف أمراً من الماضي.
يتبقى أن هناك مجموعة من العوائق التي يجب تذليلها قبل أن نعتمد الدراسة عن بعد، وأولها حل مشكلة الاتصالات، ورغم صعوبة المشكلة فأنا على يقين بأنه إذا اعتمد التعليم عن بعد فإن أبراج شركات الاتصالات العربية ستصل كل قرية، لأن شركات الاتصالات تبحث عن الربح، وإذا عرفت أن هناك مجموعة من العملاء في قرى معينة فهي مستعدة لإنشاء أبراجها.
يتبقى أن بعض الأسر غير قادرة على شراء أجهزة الحاسب الآلي، ولأن الحاجة أم الاختراع فستنشأ سوق للحواسيب المستعملة، كما نشأت سوق للكتاب المستعمل في كل أنحاء العالم العربي ولعل أشهرها سوق «سور الأزبكية» في مصر، التي كانت تباع عندها الكتب المستعملة، ولا أعرف إن كانت قائمة أم اندثرت.
نتبقى في الأسر مدقعة الفقر، وهذه لن تعدم المساعدة، سواء من الدولة أو من الجمعيات الخيرية.
التعليم عن بعد سيقلل عدد المدارس وسيغير نمط بنائها، فبدلاً من بناء مدرسة تتسع لكل الأغراض تحتوي الصف والملعب الرياضي والمسرح، فسنجد في الحي مدرسة كاملة للألعاب الرياضية، تشمل جميع الملاعب: قدم، وسلة، وتنس، وقفز، وغيرها من الألعاب، وبهذا نضمن جودة الملعب الذي سيستفيد منه الطلبة في الحي وربما غيرهم، وبالتأكيد سيستوعب مركزاً أو اثنين لطلبة الحي الواحد، خاصة إذا تم تشغيله مساء بحيث يرافق أولياء الأمور الطلبة.
ومثل هذا مبنى للفنون والرسم والمسرح وغيرها، وأيضاً مبنى للمعامل العلمية الكيمياء والفيزياء وغيرها. هذه بعض النتائج للتعليم عن بعد وليس كلها لأن هناك نتائج اجتماعية لم أتطرق إليها، أما التكلفة الاقتصادية فإنها ستنخفض سواء على الدولة أو على الأسرة، لذلك لم أستغرب حينما قال وزير التعليم السعودي الدكتور حمد آل الشيخ إن التعليم عن بعد لم يعد بديلاً ولكنه أصبح خياراً استراتيجياً.
كل ما أتمناه أن نستمر في محاولة ترسيخ هذا التعليم عن بعد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التجربة جديدة وسيعتريها بعض الأخطاء، ولكن مع التطبيق سنتلافاها، مما يحسن جودة التعليم عن بعد.