أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

«الوصاية» و«مُصَاصَة» القصب

مع انتصاف القرن العشرين، كان جيل آبائنا (الشباب أو بمراحل الصبا وقتها) على موعد مع القدر الذي أتى بالشاب جمال عبد الناصر إلى مقعد الحكم في مصر (35 عاما حين تولى المنصب)، ليشد معه أبناء نفس الجيل إلى مقاعد القيادة والتمكين في أغلب مؤسسات الدولة.
وخلال السنوات التالية، التي شهدت انتصارات ونكبات نتيجة لطبيعة المرحلة الحماسية - التجريبية، رسخ هذا الجيل قواعده، واكتسب مع مرور الأعوام مزيدا من الخبرات التي لا شك فيها، والتي أهلته للاستمرار في تلك المقاعد طوال عهد الجمهورية الأولى في مصر (1952 - 2011)؛ إذ كان حسني مبارك نفسه من الضباط الصغار في الجيل ذاته. ظلت الوجوه ذاتها على المقاعد في الحكم، كما ظلت في المقاعد ذاتها في البيت، والشارع، والشغل، والمسجد، والكنيسة.. لم تترك خرما إلا ملأته، والتصقت به، حتى شاخت.
ورأى رموز تلك الحقبة، ومن بينهم مواطنوها البسطاء الذين يمثلون أهالينا، أنهم حملوا الأمانة، بعضهم عن طيبة نية وبساطة وبعضهم عن طمع وجشع في الاستمرار، لكنهم جميعا «أشفقوا» على أبنائهم (نحن) من أي مسؤولية تحني كاهلهم «اللين»، من وجهة نظرهم.
وكلمة حق، فقد خلقوا جيلا «طريا» بكل ما في الكلمة من معان، لا يستطيع أن يطعم نفسه، وكثير الشكوى من كل شيء تقريبا.
ويقول الطيبون والأشرار من الجيل السابق «جيلكم بلا خبرة، فكيف نترك له الأمانة؟».. ولهم كثير من الحق في ذلك.. فإذا ما قارنا مثلا «رواد» الإعلام الذين تولوا المسؤولية في سن الثلاثين في الخمسينات بجيل اليوم، فسنجد أن هؤلاء تعلموا «الصنعة على أصولها» على يد «أباطرة».. أما اليوم فالمقارنة «المخلة» لا تصح بالطبع إذا نظرنا إلى رموزنا من الراقصين والمطبلين والمهتمين بالجن.
لكن الصرخة التي تختنق في أفواه الجيل الحالي، وتريد الانطلاق في وجه آبائه، تقول في بساطة «ألستم أنتم المسؤولون عن هذا التجريف الفكري والثقافي الذي نعانيه.. فلماذا تعايروننا بما نحن فيه؟».
المدهش أننا جميعا شاهدنا أفلام الخمسينات والستينات والسبعينات.. حين كان هؤلاء شبابا، ونصدم بأن «جيل الميكروجيب والميكافيلية والعدمية» يحاسب بعض أقراننا من ضحاياه على تهم تتعلق بالفساد الأخلاقي أو الإلحاد أو التفاهة.. الجيل الذي تمتع بحريته حتى «الثمالة»، و«مصمص» عود القصب حتى لم يعد فيه نقطة عصير، يحاسبنا على اختلاس بعض من ذرات الحرية المتناهية الصغر المتبقية في الهواء، ويأبى علينا أن نطالب بشيء من ذلك.
يقول البعض إن الأفلام ليست كالواقع، وإن الحقيقة ربما تكون غير ما رأينا.. لكن لنسأل كل واحد من هؤلاء «ألم تر، ولو صدفة، صورة بالميكروجيب حاولت إحداهن إخفاءها عميقا في أحد أدراج الثياب، قبل أن ترتدي الحجاب أو النقاب لاحقا؟».. «ألم تشاهد والدك أو عمك في صورة أخرى بشعره الغزير الهمجي وبنطاله الشارلستون؟».. «ألم يخبرك قريب بأنه تسكع في حارات باريس مستمتعا بأفكار الوجودية قبل أن يتراجع عنها ويربي لحيته ليصبح نموذجا سلفيا؟».. «ألم يبلغك جدك في لحظة صفا بأن الشباب والفتيات كانوا يسيرون يدا بيد (ولا داعي لذكر المزيد مما قد يضع الجد في حرج) على الكورنيش في عز الظهر دون أن يعترضهم شرطي الأخلاق الحالي الذي نصبه آباؤنا من أنفسهم علينا؟».
إنكم يا سادة تمارسون الوصاية بأبشع أساليبها، وتأبون حتى أن تتفلوا «مصاصة القصب» كي لا يراها من بعدكم، وتبغون ابتلاعها.. لكنكم ربما تختنقون.