عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

الإمارات وإسرائيل... صناعة السلام

عملية سلام جديدة مع إسرائيل صنعتها دولة الإمارات العربية المتحدة برعاية أميركية من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهي عملية سلامٍ تحافظ على الحق الفلسطيني وتدعمه، ولا تتدخل في عملية التفاوض المباشرة بين فلسطين وإسرائيل، بل تترك الأمر لأصحابه.
هذه الاتفاقية التي أُعلن عنها قبل أيامٍ بشكلٍ مفاجئ ومن دون تسريباتٍ، كانت قد تضرُّ بنجاح الاتفاقية، تشكل اختراقاً مهماً في عملية السلام في الشرق الأوسط بعدما عانت من جمودٍ طويلٍ من دون أي تقدمٍ أو نجاحٍ بل من دون أي أفقٍ للنجاح أو التغيير، وقد تلام إسرائيل على جزء من ذلك التعطيل، ولكنها ليست الوحيدة التي تلام في هذا السياق.
القضية الفلسطينية العادلة ظلّت لأكثر من سبعين عاماً من دون حلٍّ سياسي مُرضٍ للفلسطينيين الذين كانوا يصرّون على أشياء كبيرة، ويراهنون على قوة الحق ويتناسون حق القوة، وقوة الحق مبدأٌ وحق القوة سلاحٌ، والمبدأ لا يقف أمام السلاح، ومن هنا جاءت السلسلة الجهنمية من الخسائر الفلسطينية التي تبدو بلا آخر للأسف الشديد، وزاد الطين بلة الشعارات التي كانت ترفعها دول عربية لاستغلال القضية الفلسطينية من شعارات قومية، ناصرية كانت أم بعثية إلى شعارات يسارية لا تغني ولا تسمن من جوعٍ، وصولاً إلى التدخلات الإقليمية من بعض الدول غير العربية لاستغلال فلسطين والتي قادتها إيران وتركيا.
القرار الإماراتي قرارٌ صائب في الاتجاه الصحيح بعدما ظلت القضية تراوح مكانها من دون أي قدرة على تشكيل اختراقٍ سياسي، وبعد طول تنازلات فلسطينية مستحقة كانت مشكلتها الوحيدة هي أنها تأتي دائماً بعد فوات الفرصة، واتفاقية أوسلو التي وقّعها الفلسطينيون 1993، جاءت بعد ضياع فرصة «مشروع فهد للسلام» مطلع الثمانينات ضمن سياق طويل من الفرص الضائعة قبل «أوسلو» وبعدها.
إحدى مشكلات القضية الفلسطينية تكمن في عدم تحديد الهدف، في عدم تحديد ماذا تريد القيادة الفلسطينية؟ هل تريد الحق كاملاً أم تريد حلولاً واقعية؟ الحق كاملاً لم ولن يحصل في الزمن الراهن، واختياره يعني رفض عملية السلام برمتها والتخلي عن السلطة الفلسطينية على أرض فلسطين، والعودة للشتات من جديد والتشبث بالحق، بينما هذا ليس خياراً فلسطينياً على الإطلاق، بدليل الانخراط منذ أكثر من ربع قرنٍ في عملية أوسلو وفي الخيار الواقعي العقلاني، وأساس المشكلة اليوم هو مراوحة القيادة الفلسطينية بين هذين الخيارين، مرة ينحازون للمبدأ ومرة للواقع.
منذ سبعة عقودٍ من الزمن ظلَّ الفلسطينيون يعتمدون بالكامل على المساعدات من الدول العربية، وبخاصة دول الخليج العربي الغنية، في معاشهم وحياتهم ووظائفهم وسلطتهم وسفاراتهم، وفي كل تفاصيل حياتهم، وظلّوا يصرّون دائماً على أن تكون خياراتهم كاملة بأيديهم من دون أي تدخلٍ من الدول الداعمة، ومن دون أي مبالاة بمصالح تلك الدول والتحديات التي تواجهها، ومشكلة استهلاك القضية المقدسة وجعلها مصدر ابتزازٍ فقط، أنها تصبح معرّضة لانكسار القداسة وابتعاد الداعمين.
الشباب العربي في كثير من الدول العربية بدأ يخسر حماسته لفلسطين بسبب طول استغلال القضية في قضايا سياسية لا تعني الشعب الفلسطيني بل لمجرد الاختباء خلفها، من دول عربية وإقليمية ومن بعض التيارات الفلسطينية نفسها، والانقسام الفلسطيني الذي شق الصف الفلسطيني جاء بدعم كامل من إيران وتركيا وقطر وجماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وفي غزة لخدمة الجماعة لا خدمة فلسطين.
«حماس» استولت على غزة بقوة السلاح والقتل والدماء، لا لإسرائيل بل للشعب الفلسطيني، وصرح قادة الحركة وعلى رأسهم محمود الزهار بأنَّ فلسطين لا تعني شيئاً لـ«حماس» كما راهنت جماعة «الإخوان» في حكم مصر على منح أهل غزة جزءاً من سيناء ليعيشوا فيها ضمن خطة اتفاق مع إسرائيل، التي كان الرئيس الإخواني آنذاك قد سمى رئيسها «صديقي العزيز» في رسالة وجَّهها إليه.
الدول العربية التي أقامت علاقات مع إسرائيل متعددة، منها مصر والسلطة الفلسطينية والأردن، ولحقها بعض الدول ومنها قطر التي بدأت منتصف التسعينات علاقاتٍ شبه كاملة وتحالفاتٍ ظاهرة وزيارات متبادلة، بحيث زار المسؤولون الإسرائيليون الدوحة وتمتعوا بزيارة قناة «الجزيرة» وأصبحوا معلقين ثابتين في كل الإعلام القطري.
تركيا الإردوغانية هي الأخرى تقيم علاقات تحالفية مع إسرائيل تصل إلى التعاون في مجال الجيوش والتصنيع العسكري، ومع ذلك تستغفل بعض السذج بشعاراتها البلهاء والتي لا يقتنع بها إلا بعض القطيع من أتباع الإسلام السياسي.
فتحت دولة الإمارات طريقاً طبيعياً لتطور العلاقات مع دولة إسرائيل، وستتبعها دول عربية وخليجية في نفس الاتجاه، وقد رحَّبت سلطنة عُمان ومملكة البحرين علناً بالخطوة الإماراتية، ما سيشكل تياراً عربياً يتجاوز كل الإعاقات الفاشلة التي سادت لسبعين عاماً، ومن هنا يتضح سبب غضب بعض القيادات الفلسطينية التي ستُحرم من الابتزاز الطويل لأشقائها وجيرانها باسم قدسية القضية.
الدعم العربي الضخم والطويل لفلسطين كان بلا منّة ولا حسابٍ، ولكن الاستفراد بالقرار وحجم الفساد العريض، وهرِم القيادات وعجزها عن أي اختراقٍ لا يجعل أمام الدول والشعوب الشقيقة إلا مراجعة أولوياتها، وتصدير الأولويات الوطنية على كل ما سواها.
موقف الإمارات مدعومٌ من الكثير من الدول العربية، ومدعومٌ أكثر من الشباب العربي الباحث عن المستقبل والتنمية والتقدم والرقي، ومدعومٌ أكثر في مواجهة الأخطار الإقليمية المحدقة والقادمة من إيران وتركيا.
ظلّ كاتب هذه السطور وغيره لسنواتٍ طويلة في نقاشات مستمرة مع مثقفين عرب، لإقناعهم بأنَّ دول الخليج وقفت طويلاً مع العرب في مواجهة الخطر الإسرائيلي، وقد حان الوقت أن يقفوا مع دول الخليج في مواجهة الخطر الإيراني، ولكن ذلك كله كان بلا جدوى، فقد كان الإصرار واضحاً على عدم إدانة إيران وتهديداتها بل على العكس، كانت بعض التيارات الفلسطينية تتحالف مع طهران علناً ضد دول الخليج وتسكت عنها تيارات أخرى.
أخيراً، لم تمنّ الإمارات ولا دول الخليج وشعوبها أبداً وبشكل قاطعٍ بأي دعمٍ قدمته للقضية الفلسطينية، وهي لن تفعل مستقبلاً، ولكنّ الأوضاع في المنطقة والعالم تغيرت وتقلبت كثيراً في سبعة عقودٍ، وتجاوز الزمن كل الشعارات والإمكانات والتوازنات التي كانت قائمة، ونحن في عصر الدولة الوطنية الحديثة التي لا تعنيها القومية ولا الأممية، بل تعنيها مصالحها ومصالح شعوبها أولاً.