إليسا مارتينوزي
TT

المصارف البريطانية بين «كورونا» والاقتصاد

قطعت المصارف الكبرى في المملكة المتحدة طريقاً طويلاً منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، عندما اضطر دافعو الضرائب في البلاد إلى إنقاذ تلك المصارف بسداد عشرات المليارات من الجنيهات. ولقد حازت المصارف البريطانية قوة كبيرة بكل تأكيد منذ ذلك الحين، سيما مع توافر رؤوس الأموال المريحة، حيث باتت تتحرك على مسار يمكن وصفه بأنه أسوأ ركود قد يواجهونه منذ ثلاثة قرون كاملة.
ومع أن مستقبل الانتعاش الاقتصادي أبعد ما يكون عن التأكيد في الآونة الراهنة، يتعين على المصارف البريطانية تخصيص مبالغ ضخمة من الأموال لأجل تغطية الخسائر المحتملة من القروض. ومع ضغوط أسعار الفائدة المنخفضة على هوامش الأرباح، ومع شروط الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي غير النهائية حتى الآن، فما من دهشة في أن المستثمرين ما زالوا واضحين بشأن مستقبل أعمالهم في البلاد.
كان أداء الأسهم في المصارف البريطانية الأربعة الكبار – اتش اس بي سي هولدينغ، وباركليز، ولويدز بانكينغ غروب ونات ويست غروب الذي أعاد تغيير علامته التجارية مؤخراً – هو الأداء الأسوأ من نوعه بالمقارنة بنظيرتها في الاتحاد الأوروبي خلال العام الجاري. شهد مصرف لويدز ونات ويست – وهما الأكثر تعرضاً لاقتصاد المملكة المتحدة – فقدان أكثر من نصف القيمة السوقية في الآونة الأخيرة، مما تركهما في مستويات ليست أبعد مما كانت عليه الأوضاع خلال الأزمة المالية السابقة. وأقدمت مؤسسة «بانكو ستاندر إس إيه» – التي تدير خامس أكبر مصرف في بريطانيا – خلال الأسبوع الماضي على شطب 7.2 مليار دولار من القيمة السوقية لفروع المصرف في المملكة المتحدة.
ومن أبرز أسباب مخاوف المستثمرين الكبيرة هو أن الصدمة المحتملة والمتوقعة لميزانيات المقرضين من الشركات والأسر هي أنهم لن يتمكنوا من سداد القروض بسبب قرارات الإغلاق العامة الناجمة عن تفشي وباء «كورونا المستجد». وصرح إيوين ستيفنسون، وهو المدير المالي لمصرف (إتش إس بي سي) لشبكة «بلومبرغ» الإخبارية يوم الاثنين الماضي بأن المملكة المتحدة أصبحت واحدة من أضعف الأنظمة الاقتصادية التي يمكن مشاهدتها على مستوى العالم.
ويتوقع المحللون أن تصل الاعتمادات المصرفية عبر المصارف الأربعة الكبرى المذكورة إلى 27 مليار دولار خلال العام الجاري، مع مصرف (إتش إس بي سي) الذي يشكل وحده أكثر من نسبة الثلث من تلك الاعتمادات. ومن زاوية المنظور المالي، حققت تلك المصارف الكبرى مجتمعة أرباحاً أقل من 19 مليار دولار في العام الماضي. وكانت المصارف الأخرى في الاتحاد الأوروبي – وهي كبار الجهات المقرضة للشركات المتوسطة والصغيرة – تُجري عمليات شطب مماثلة من القيمة السوقية للمصارف الأوروبية. لكن حتى الآن، تبدو الصناعة المصرفية في المملكة المتحدة في وضع سيئ للغاية.
وعند الإبلاغ عن التقارير الفصلية عن أرباح الربع الثاني من العام الجاري في الأسبوع الماضي، صرحت العديد من الجهات المقرضة في المملكة المتحدة بأن المخصصات تعكس حالة الانتعاش الاقتصادي الضعيف والبطيء مع ارتفاع معدلات البطالة المتوقعة. ويقدر مصرف (نات ويست) الذي تسيطر عليه الحكومة البريطانية أن معدلات البطالة يمكن أن تتجاوز 9 نقاط مئوية، ولسوف يتجاوز بذلك المعدل المسجل سابقاً بواقع 8.4 نقطة مئوية عند ذروة الأزمة المالية العالمية.
بيد أن هناك ما يبرر التقييمات المتسمة بالتحفظ لدى المصرفيين في المملكة المتحدة. ووفقاً للمعهد القومي البريطاني للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، فإن معدل البطالة سوف يرتفع وصولاً إلى 10 نقاط مئوية في وقت لاحق من العام الجاري بمجرد الانتهاء من خطة الإجازة الحكومية بحلول نهاية أكتوبر (تشرين الأول) من العام الحالي.
وتستشعر المصارف البريطانية حساسية خاصة إزاء سوق الوظائف في المملكة المتحدة نظرا لأن الكثير من أعمالها تعتمد على المستهلكين. وهناك ارتباط كبير ما بين البطالة والمديونيات (تضاعف حالات الإعسار عن سداد القروض) عبر الإقراض غير المضمون وبطاقات الائتمان، على سبيل المثال. وتعتبر الرهون العقارية من الأعمال ذات الأهمية أيضاً، ويقول المحللون من مصرف دويتشه بنك الألماني إن المقدرة على سداد قيم الرهون العقارية تتأثر بصورة كبيرة مع ارتفاع معدلات البطالة إلى ما يزيد على 8 نقاط مئوية. ويُقدر مصرف دويتشه بنك الألماني أن الخسائر المتكبدة لدى ست من الجهات المقرضة في المملكة المتحدة يمكن أن تصل إلى مبلغ 56 مليار جنيه إسترليني (ما يوازي 77 مليار دولار أميركي) على مدى عامين كاملين إذا ما وصلت معدلات البطالة إلى 10 نقاط مئوية كما هو متوقع.
ومن شأن الانخفاض في أسعار الفائدة أن يؤدي إلى المزيد من الأضرار، ويسبب تآكل في الإيرادات وهوامش الأرباح، ويزيد من الضغوط القائمة على التكاليف. ثم هناك الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. فإن احتمال مغادرة المملكة المتحدة عضوية الاتحاد الأوروبي من دون صفقة محددة المعالم والشروط، تظهر في مخططات السيناريوهات الأكثر تطرفاً لدى إدارات المصارف البريطانية الكبرى. ولكنها لن تكون من الأحداث السارة في ظل كارثة الوباء العالمية الراهنة. وعلى الرغم من الزيادة الكبيرة التي شهدها قطاع مبيعات التجزئة في المملكة المتحدة خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي، إلا أن دراسة الأسر التي أجريت مؤخراً تعكس تراجعاً في ثقة المشتهلك خلال شهر يوليو (تموز) الماضي، حتى قبل أن تشرع الحكومة البريطانية في تشديد تدابير الإغلاق العام مرة أخرى.
ومن الأمور الجيدة أن رأس المال ليس هو المشكلة في حد ذاته – حتى الآن على أقل تقدير؛ إذ تتوقع المصارف الكبرى أن يتعرض الاحتياطي الرأسمالي لديها إلى ضغوط هائلة، ولكن المصارف البريطانية الأربعة الكبرى قد أبلغت مؤخراً عن تحسن في معدل المستوى الأول من الأسهم المشتركة خلال الربع الثاني من العام الجاري، ويرجع الفضل في ذلك – جزئياً – إلى التغييرات التنظيمية التي أجريت هناك. ومن شأن ذلك مساعدة المصارف البريطانية الكبرى على تجاوز العاصفة الشديدة الراهنة، بيد أن الأوضاع العامة لا تزال قاتمة في عموم البلاد.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»