روبرت فورد
السفير الأميركي السابق لدى سوريا والجزائر والباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن
TT

من البداية إلى النهاية

كنت مستقلاً مصعد برج السفارة الأميركية في القاهرة في الثاني من أغسطس (آب) لعام 1990 عندما ولج دبلوماسي أميركي آخر إلى المصعد وأبلغني بأنباء غزو صدام حسين للكويت. وربما يتذكر عدد قليل من المواطنين الأميركيين الذكرى الثلاثين لغزو الكويت، لكن الكثيرين منهم سوف يتذكرون فقط الحرب التي خاضها جيش الولايات المتحدة مع حلفاء مهمين مثل المملكة العربية السعودية، ومصر، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وحتى الجيش السوري من أجل توحيد جهود الحلفاء في طرد الجيش العراقي خارج الكويت في يناير (كانون الثاني) من عام 1991، أما بالنسبة لي، فإنني أستعين برواية الرئيس الأميركي الأسبق جورج هربرت ووكر بوش وأساليبه الدبلوماسية فيما بين عامي 1990 و1991 على اعتبار أنها مثال يتسم بالامتياز على القيادة السياسية الأميركية في الشؤون الدولية، وذلك في طرحي للمسألة على طلابي من جامعة ييل في الولايات المتحدة.
عندما أقدم صدام حسين على غزو الكويت، كانت الولايات المتحدة قوة عظمى من مختلف النواحي، غير أن مدى استعدادها لقبول العديد من الخسائر في الأرواح أو الإقدام على خوض غمار حرب طويلة الأمد كان من الإشكاليات الكبيرة وذات الأهمية في تلك الأثناء. فلقد انسحب الجيش الأميركي من فيتنام قبل 17 عاماً فقط من غزو الكويت. وكان الرئيس الأسبق رونالد ريغان - وهو من أقوى رؤساء الحزب الجمهوري - قد أمر بسحب قوات مشاة البحرية الأميركية من العاصمة اللبنانية بيروت قبل 6 سنوات فقط من غزو الكويت. وكان العراق في تلك الآونة يمتلك جيشاً كبيراً وقوياً مع خبرات معتبرة من واقع حربه الطويلة مع إيران. واعترى العديد من أعضاء الكونغرس - فضلاً عن الرأي العام الأميركي - القلق والتوتر بشأن الدخول في حرب جديدة وطويلة. كانت الأسلحة ذات التقانة الفائقة جديدة على الترسانة العسكرية الأميركية وغير معهود التعامل معها. ورغم حقيقة أن الرئيس الأسبق جورج بوش الأب كان زعيم الحزب الجمهوري في عام 1990 فإنه كان محافظاً على الدوام على علاقات ود جيدة مع الحزب الديمقراطي في العاصمة واشنطن، وكان يملك القدرة على إقناع قادة الحزب الديمقراطي المعارض بدبلوماسيته المتدرجة خطوة بخطوة حتى قبول ضغوط الرأي العام الأميركي واتخاذ التدابير العسكرية المحتملة رداً على غزو الجيش العراقي للكويت.
وعلى الصعيد الدولي، كان الرئيس بوش الأب يدرك تماماً كيفية العمل مع الحلفاء والشركاء. ولقد كان لا يتوقف عن استخدام الهاتف بصفة يومية للمحافظة على اتصالاته الوثيقة مع مختلف قادة العالم الآخرين. وكان يتحلى بدماثة خلق من المستوى الرفيع حتى أثناء الاستعانة بالضغوط الدبلوماسية في إقرار سياساته. وكان يرسل وزير خارجيته جيمس بيكر ووزير الدفاع ريتشارد تشيني في جولات حول مختلف عواصم العالم من أجل التأكيد على جدية موقف الولايات المتحدة بشأن طرد القوات العراقية الغازية من الكويت. وأشار العديد من البلدان على السيد بوش الأب والسيد جيمس بيكر بضرورة الاستفادة من منظمة الأمم المتحدة في ضمان الشرعية الدولية للحملة العسكرية الرامية إلى طرد الجيش العراقي من الكويت، ولقد وافقت إدارة الرئيس جورج بوش الأب على ذلك المقترح. ثم انطلق السيد جيمس بيكر في مختلف الجولات المتكررة خلال خريف عام 1990 للالتقاء بكل عضو من أعضاء مجلس الأمن على حدة، بما في ذلك الأعضاء الأفارقة. ولقد تمكن بعناية فائقة من تحديد عدد البلدان التي سوف تصوّت لصالح القرار الأممي الذي يطلب من صدام حسين الانسحاب من الكويت أو السماح باستخدام القوة العسكرية لإجباره على ذلك. وعندما تمكن السيد جيمس بيكر من تأمين 9 أصوات مؤيدة للقرار الأممي، كانت النتيجة هي قرار مجلس الأمن الدولي رقم 678، وذلك بعد مرور ما يقرب من 3 أشهر كاملة من الجهود الدبلوماسية الأميركية الحثيثة.
كما أنصتت الإدارة الأميركية وقتذاك إلى الدول العربية التي أعربت عن شواغلها بشأن منطقة الشرق الأوسط في أعقاب تحرير الكويت. ولقد وافق الرئيس بوش الأب والسيد جيمس بيكر على بذل الجهود الجديدة في مسار تسوية النزاع العربي - الإسرائيلي من خلال عقد مؤتمر دولي لهذا الصدد، وهي خطوة كانت تلقى الممانعة من جانب واشنطن في أغلب الأوقات، غير أن هذه الصفقة كانت تحمل أهمية خاصة بشأن إقناع الرئيس السوري حافظ الأسد لإرسال فرقة مدرعة من الجيش السوري للمعاونة والإسناد في العمليات العسكرية في يناير من عام 1991 (أتذكر صور السيد جيمس بيكر في دمشق عام 1990، ثم الرئيس جورج بوش الأب في جنيف رفقة الرئيس حافظ الأسد في حديث خاص بشأن المنطقة). حاول الرئيس بوش الأب والسيد جيمس بيكر التزام سياسة أكثر توازناً بشأن عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط. وكان السيد جيمس بيكر قد صرح علناً في يونيو (حزيران) من عام 1990 للجانب الإسرائيلي بأن موقفهم الراهن من الفلسطينيين ليس مفيداً، ثم منحهم رقم هاتف البيت الأبيض وقال: «فضلاً، اتصلوا بنا عندما تكونون جادين حقاً بشأن السلام».
كان الرئيس جورج بوش الأب وإدارته منشغلين بالكويت بسبب النفط من ناحية وبسبب أمن إسرائيل من ناحية أخرى، غير أن النفط وإسرائيل لم يكونا الشاغل الأكبر عندما أقدم صدام حسين على غزو الكويت. بدلاً من ذلك، كان الرئيس بوش الأب والسيد جيمس بيكر يفكران في عام 1990 في النظام الدولي بأسره، سيما مع تراجع الاتحاد السوفياتي وانتهاء حقبة الحرب الباردة. ولقد رغبا في صياغة نظام دولي جديد تضطلع فيه الشرعية الدولية والقانون الدولي بأدوار ذات أهمية أكبر. ونذكر جميعاً أن السيد جورج بوش الأب كان سفير الولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة قبل أن يتولى مهام رئاسة البلاد. كما أنه يتحدر من عائلة تتصف بالتهذيب، والكياسة، والثراء. ولقد كانت المنافسة من المجريات الجيدة غير أن السلوكيات الشخصية الحصيفة من جانبه كانت منتظرة ومتوقعة تماماً.
وإنني أذكر مجريات الدبلوماسية الأميركية منذ ثلاثة عقود كاملة بقدر من الحزن والأسى؛ إذ إن رئيس البلاد الحالي لا يثق كثيراً في التحالفات، ولا هو يمنح قواعد السلوك والاحترام قدرها المطلوب. فهو دائماً ما يفاجئنا ويوجه الإهانات حتى لقادة البلدان الحليفة مثل كندا أو أستراليا. كما أنه ووزير خارجيته الحالي لا يتجاهلان منظمة الأمم المتحدة فحسب، وإنما يحاولان تقويض أركانها. وهو لا يملك رؤية واضحة بشأن مستقبل منطقة الشرق الأوسط باستثناء كونها محلاً مهماً للأعمال التجارية الأميركية. وهو بكل تأكيد لا يفكر ألبتة في عملية السلام في المنطقة أو في الشعوب التي تعيش هناك. لقد كانت الولايات المتحدة دولة كبيرة وعظمى فعلاً قبل ثلاثين عاماً مضت. أما الآن، لا سيما بعد ردود فعل الرئيس دونالد ترمب بشأن التعامل مع جائحة فيروس «كورونا المستجد»، لم يعد بإمكان مواطني الولايات المتحدة استخدام حتى جوازات سفرهم في الذهاب إلى أي دولة أجنبية يريدون السفر إليها.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»