جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بيئة وسلاح وأرض تستباح

أن يكون المرءُ متعاطفاً مع أنصار البيئة وحُماتها، متحمساً لأهدافهم النبيلة، لا يعني أنه راضٍ عمّا يصادفه من حين لآخر من أعمال عنيفة يقوم بها بعضهم تتسم بمغالاة تسبب تنغيصاً للناس، وإرباكاً لحيواتهم اليومية. ومن جهة أخرى، إن تعاطفه مع البيئويين لا يعني أنه على استعداد لتغيير ما تأصل في نفسه من عادات، يعتبرها البيئويون مضرة بالبيئة. وعلى سبيل المثال، ومن تجربة شخصية، فإن حرصي على حب الحياة في بيئة طبيعية صحّية، محاطاً بالطبيعة، وفي منأى عن التلوث بأشكاله، لم يجعلني قادراً على استبدال عادة حب القراءة في كتب ورقية بأخرى إلكترونية، كما يدعو إلى ذلك أنصار حماية البيئة، للمساهمة ولو بقدر ضئيل في التقليل من قطع الشجر، رغم ما أبديت من محاولات.
لكن علاقتي بالكتاب الورقي ظلت على حالها، مخلصة لتاريخها. تمدد الكتاب الإلكتروني، وسرعة انتشاره لا يتوقف على قراء من أمثالي، لأن للجديد نكهته المميزة، وسطوته التي لا تقاوم. ذلك الانتشار السريع نجم عنه تنافس على استقطاب المستهلكين. وأثار ذلك التنافس اهتمام وسائل الإعلام، وبدأنا نقرأ ونسمع تقارير مرفوقة بإحصائيات، أسبوعية وشهرية، تؤكد توسع مساحة الكتب الإلكترونية في السوق على حساب تقلص نظيراتها الورقية، لأسباب عدة، أهمها توافرها، ورخص أسعارها. لكن بمرور الوقت، بدأ الكتاب الورقي يستعيد مكانته تدريجياً، والمحافظة على وجوده في المكتبات، الأمر الذي يؤكد أن كثيراً من القراء الذين تحولوا إلى استخدام الكتب الإلكترونية قد أعادوا علاقاتهم بالكتب الورقية. وهذا، بدوره، يقودنا إلى العلاقة بالكتب عموماً، على مختلف أشكالها وأحجامها ومواضيعها. فالمرء كلما اتسعت دوائر قراءاته، ازدادت مساحات اطلاعه اتساعاً، وازداد وعياً بما يدور حوله من أمور الحياة وشؤونها وهمومها، وازداد أسئلة وريبة في كثير من المسلّمات.
المفارقة أنه، بمرور الزمن، يزداد المرء نسياناً لما اطلع عليه من كتب. ولا تبقى منها مضيئة على رفوف الذاكرة سوى قلة قليلة، لأسباب كثيرة، قد تكون ذات علاقة بمواقف وذكريات شخصية أو عامة. وفي هذا السياق، أعترف أن أحد أهم الكتب التي أحتفظ لها بمكانة في قلبي، وذاكرتي، كتاب «موسم الحكايات» للكاتب الليبي الراحل خليفة الفاخري، الصادر في بداية سبعينات القرن الماضي.
قرأتُ ذلك الكتاب الممتع في مرحلة مبكرة من شبابي وأحببته. وفيه يقدم خليفة الفاخري نصوصاً أدبية متميزة بجدّة عوالمها، وطزاجة لغتها، وجاذبية وسحر أسلوبها، ومروية على شكل حكايات، مستمدة من بؤس الواقع الليبي وما كان يدور فيه من تناقضات، في مرحلة ما قبل النفط وما بعدها، وكذلك من تجربة الفترة التي قضاها الكاتب مغترباً في بريطانيا. إحدى الحكايات، التي ما زلت أذكرها، تروي قصة رجل يحترف التهريب مهنة، في مرحلة ما قبل اكتشاف وتصدير النفط، ويقيم في قرية ليبية قرب الحدود البرية مع مصر، ويعبر الحدود يومياً على دراجة، قاصداً الجهة الأخرى من الحدود، حاملاً معه كيساً من رمل. في نقطة الحدود، ينهمك رجال الجمارك في تفتيش كيس الرمل، وحين يتأكدون من عدم وجود ممنوعات في ذلك الكيس ورمله، يسمحون له بالعبور إلى الجهة الأخرى. ويتكرر نفس الأمر في نوبة المساء لدى عودته في طريقه إلى بيته. عقب سنوات مديدة على تلك المرحلة، وترك الرجل لعمله في تهريب الممنوعات، التقاه، صدفة، ذات يوم في مدينة بنغازي، واحد من رجال الجمارك الذين كانوا يعملون في نقطة الحدود، وتعرف عليه. وبعد السلامات أبلغه أنه كان مع زملائه، يعرفون أنه يقوم بالتهريب، لكنهم لم يكونوا على علم بالسلعة التي كان يقوم بتهريبها. وطلب منه معرفة نوع السلعة التي كان يهربها. فردّ الرجل بابتسامة أنه كان يهرّب دراجات.
واكتشفت، مؤخراً، أن هذه الحكاية، رغم تقادم العهد، واختلاف التجربة، ربما تكون ذات صلة ما، بما يحدث في المنظمات الدولية من نقاشات واختلافات تتعلق بالموقف من منع تصدير الأسلحة إلى ليبيا، وفقاً لما صدر من قرارات دولية؛ ذلك أن الحروب التي لم تهدأ نيرانها في البلاد منذ عام 2014، جعلت الأطراف المتحاربة حريصة على استمرار خطوط تزويدها بشحنات السلاح مفتوحة، خاصة عن طريق البحر. وفي فترة ما، حرص الاتحاد الأوروبي على قطع تلك الخطوط، عبر فرض رقابة بحرية. إلا أن العملية سرعان ما أصابها الفشل بسبب الاختلافات بين الدول المشاركة فيها حول الموقف من قوارب الهجرة غير الشرعية وحمولاتها من المهاجرين.
ما يثير الاهتمام، أن الحرص على منع تدفق الأسلحة، لم ينبثق عنه حرص مماثل فيما يخص تجنيد المرتزقة من عدة بلدان وإحضارهم إلى ليبيا. الإحصائيات المتوفرة إعلامياً تشير إلى وجود آلاف المقاتلين من سوريا وتشاد وروسيا وغيرها يحاربون مع الطرفين لقاء أجور شهرية تدفع لهم بالعملات الصعبة، الأمر الذي، أعتقد شخصياً، أنه، آخذين الفارق في الاعتبار، ربما يقربنا كثيراً من إشكالية أكياس الرمل والدراجات، والموقف بين ممثلي القانون ومنفذيه متجسدين في رجال الجمارك ومراقبة الحدود، ومنتهكيه ممثلين بالمهرب.