طلال الطريفي
- أكاديمي وإعلامي سعودي
TT

رداً على زكريا قورشون في سلسلة مقالاته «رداً على السعوديين» (2): «الرواق العثماني» يثبت عدم درايته بالمصادر و«متلازمة الأضداد» تسيطر على طرحه

بعد أن تناولنا، في الحلقة السابقة، الأزمة النفسية التركية في التاريخ المركب، وما كتبه قورشون في سلسلته من إثبات لهذه الأزمة، سنتحدث عن أهم المفاصل التاريخية التي تناولها قورشون، وفق الطرح العلمي الأكاديمي. وسنبتعد عن الإسقاطات السياسية التي أشار إليها بقصد الإساءة إلى المملكة العربية السعودية، أو محاولة التقليل من «رؤية المملكة 2030»، لأنه بحسب المثل الصيني «الشجرة تُعرف من ثمرها»، فالسعودية بشهادة العالم أجمع تسابق الزمن في التطور والتقدم وتحقيق النتائج من خلال رؤيتها، فيما أن الثمرة التركية لم تورث سوى التدخل في شؤون الآخرين، وافتراض الحالة الحربية في أكثر من مكان في العالم العربي، سعياً منها إلى إحياء الحلم الإمبراطوري القديم الذي يعد موجة متكسرة على الواقع. ولن تورث سياسة الحكومة التركية الحالية سوى مزيد من المآسي، لمحيطها وللداخل فيها، فإضافة إلى ما تعانيه من أزمة اقتصادية ومشكلات داخلية، ستورث قضية جديدة للتاريخ التركي، على غرار القضية الأرمنية، إذ إن العرب لم يختلفوا عن الأرمن في قضيتهم مع الترك، لما أحدثه الأتراك بهم من مذابح في فترة التاريخ العثماني، واليوم تقوم الحكومة الحالية باستكمال ذلك في أكثر من بلد عربي.

«الرواق العثماني»

القضايا التاريخية التي تناولها قورشون بدأها بـ«الرواق العثماني». وحقيقة، إنه لم يكن ناصحاً لنفسه، فأقل من يتمتع بمهارة تاريخية يعي أن طرح هذه القضية المحسومة تاريخياً مخاطرة خاسرة، ولا يمكن أن تخضع للمسألة التركيبية التاريخية على الطريقة التركية، باعتبار ما يدعمها في المصادر التاريخية من شواهد وإثباتات.
لكن فيما يبدو أنه طرح هذه القضية كي يشير فقط إلى مصطلح «الذباب الإلكتروني» الذي لا يليق بعالم أو أكاديمي استخدامه أو الانزلاق إليه. ومما يدعو للسخرية السوداء أن من يناقش أو يناقض الزيف التاريخي يُتهم بمثل هذه العبارات غير اللائقة.
وقد أشار إلى أن السعوديين يزعمون بنسبة الرواق العثماني في الحرم المكي إلى الخليفة الراشد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وأنهم بذلك يتهربون من المشكلات، وقال ذلك في سياق أن السعوديين يُظهرون معاداة العثمانيين، ويستخدمونها أداة في التنافس الإقليمي مع تركيا.
ولكن فيما يبدو أنه على قورشون أن يأخذ درساً تاريخياً بدائياً في قراءة المصادر لأنه من سياقه يستهجن مسألة نسبة الرواق العثماني إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فإن قَصَدَ التاريخ، فالتاريخ يسوق ما يُثبت ذلك بالمصادر، وقبل أن يعرف التاريخ دولة العثمانيين.
وللتاريخ، فقد مرَّت العمارة في الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة بِمراحِل عدَّة، بدءاً من عهد الخليفة الثاني في عصر الراشدين عُمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- ومن بعده في عهد الخليفة عُثمان بن عفان -رضي الله عنه- الذي رأى ضرورة توسعة الحرم المكي، لكثرة المساكن التي أحاطت بالقرب منه، حتى التصقت به، فأمر بشراء المساكن المحيطة لاستيعاب التزايد في عدد الزائرين من الحجاج والمعتمرين والمصلين. وخلال هذه التوسعة، أمر عُثمان -رضي الله عنه- بإنشاء أروقة للمسجد، بعد أن زاد من مساحته بنحو 2040 متراً مربعاً، إذ أصبحت مساحة الحرم ضعف ما كانت عليه قبل سنة 26هـ-647م. وقد أشار الفاكهي (توفي بين: 272-279هـ|885-892م) في أخبار مكة، وابن جرير الطبري (توفي: 310هـ-922م) في تاريخه، إلى توسعة عثمان -رضي الله عنه- في أحداث سنة 26هـ، بقوله: «وفيها، زاد عثمان في المسجد الحرام» (محمد الفاكهي، أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، تحقيق: عبد الملك بن دهيش، ط2، بيروت: دار خضر، 1994، 2: 158؛ محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل، ط2، القاهرة: دار المعارف، د.ت، 4: 251).
وبالتالي، فإن أروقة المسجد الحرام منسوبة إلى الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بصفته أول من بناها في المسجد، لذلك سُميَّت بالأروقة العُثمانيَّة. وقد أشارت إلى ذلك كتب التاريخ والبلدانيَّات بالإجماع. فالبلاذري (توفي: 279هـ-892م) في فتوحه قال: «عثمان أول من اتخذ للمسجد الأروقة، واتخذها حين وسَّعه»، كذلك قال الزركشي (توفي: 794هـ-1392م) في إعلام الساجد: «ثم لما استخلف عثمان -رضي الله عنه- اشترى دوراً آخر، ووسعه أيضاً، وبنى المسجد والأروقة، وكان عثمان أول من اتخذ الأروقة» (أحمد البلاذري، فتح البلدان، تحقيق: عبد الله الطَّبَّاع، بيروت: مؤسسة المعارف، د.ت، 62؛ محمد الزركشي، إعلام الساجد بأحكام المساجد، تحقيق: أبو الوفاء المراغي، ط4، القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1996، 57).
أيضاً ابن فضل الله العُمري (توفي: 749هـ-1348م) أشار إلى ذلك، وتتبَّعه تاريخياً، إلى أن قال: «ثم لما استخلِف عثمان، ابتاع منازل، ووسَّعه بها، وبنى الأروقة للمسجد» (ابن فضل الله العُمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق: كامل الجبوري، بيروت: دار الكتب العلمية، 2010، 1: 186).
والمؤرخ العثماني النهرواني (عاش: 917-988هـ|1511-1580م) تحدث عن توسعة المسجد الحرام بقوله: «فلما استخلف عثمان -رضي الله عنه- ابتاع منازل، ووسَّعه بها أيضاً، وبنى المسجد الحرام والأروقة، فكان عثمان أول من اتخذ للمسجد الأروقة» (قطب الدين النهرواني، الإعلام بأعلام بيت الله الحرام تاريخ مكة الـمُشرَّفة، د.م، د.ن، د.ت، 37).
وتطور الأمر بعد الراشدين، فعبد الله بن الزبير (سنة64هـ-684م) أجرى بعض الزيادات في المسجد الحرام، وقام بسقفه ودعمه بالأعمدة الرخامية، ووسعه ضِعف ما كان عليه منذ عهد عثمان -رضي الله عنه. والأموي عبد الملك بن مروان أضاف بعض الإجراءات المعمارية الداخلية في الحرم من دون زيادة، برفع جدرانه وسقفه، وأضاف على رأس كل أسطوانة فيه خمسين مثقالاً من الذهب، وذلك سنة (75هـ-694م). وفي عهد ابنه الوليد، أضاف أساطين جلبها من مصر والشام، وزاد من مساحة الحرم من جهته الشرقيَّة برواقٍ دائري (محمد بن سعد، الطبقات الكبير، تحقيق: علي محمد، القاهرة: مكتبة الخانجي، 2001، 6: 488-490؛ أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، تحقيق: عبد الأمير مهنا، بيروت: شركة الأعلمي للمطبوعات، 2010، 2: 191-206).
أما في عهد العباسيين، فقد قام أبو جعفر المنصور بزيادة رواق على صحن المسجد، وبنى مئذنة في ركنه الشمالي الغربي سنة (140هـ-757م)، ومحمد المهدي بعده بعشرين سنة في عام (160هـ-777م)، ثم في سنة (164هـ-781م)، قام بتوسعة كبيرة للحرم المكي، حيث حرص على أن يكون المسجد مربعاً تتوسطه الكعبة المشرفة، فكانت توسعته شاملة للمسجد بكل أجزائه. وبتوسعته بعد أن بنى الرواق الكبير للحرم بإرفاقه بفناء الكعبة، وأضاف الأعمدة وتيجانها وقواعدها الرخامية، لذا سمي أيضاً الرواق العباسي الكبير، وتوالت بعده التوسعات العباسية حتى عهد المعتضد بالله (توفي: 289هـ-902م) الذي أضاف دار الندوة إلى المسجد الحرام، بعد أن دعمه بالأساطين والأروقة المسقفة، فالمقتدر بالله (سنة 306هـ-918م) زاد من المساحة بضم بعض الأبواب بمساحاتها (تاريخ اليعقوبي، 2: 299-347؛ جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء، بيروت: دار ابن حزم، 2003، 293-305).
وبناء على ما فات، فإن نشأة الرواق كانت قبل وجود الدولة العثمانية بقرابة تسعة قرون من الزمان، لكن العثمانيين وأتراك الأناضول استغلوا حالياً مسألة التسمية لصالحهم، كما أوردت «وكالة الأناضول» الرسمية التركية زعمها بذلك، ووصفته بالعبث في الحرم المكي، بإزالة الرواق فقط لأنه يرمز إلى العثمانيين، بينما أن الثابت لدى أهل العلم ولدى الجميع أن نسبته كما أوردنا إلى الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ولا علاقة للعثمانيين بذلك. ولكن استغلالاً للاسم، وتزييفاً للحقيقة، وقعت «وكالة الأناضول» بالمحظور، لعدم إدراك التاريخ من مصادره، ولتعودهم على التدليس والصياغة التاريخية التي تخدم مصالحهم، ولقد دلسوا وكابروا حتى بعد أن تبيَّن لهم خطأهم، حيث رضخوا للضغط من الذين عارضوا ذلك على حسابهم في «تويتر»، ولكنهم بمكابرة اعترفوا بنسبته إلى ابن عفان، واستمروا في محاولة الإساءة إلى السعوديين.
ومن هنا، فإن قورشون بما أشار إليه بطرح الرواق العثماني لم يكلِّف نفسه البحث بالمصادر، ليتأكد قبل أن يشير إلى أن السعوديين «يزعمون» نسبتها إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لكن ثمة إشكالية نفسية عميقة في محاولة تحسين صورة العثمانيين، وقولَبة التاريخ وتأطيره بفرضية أن العثمانيين يمثلون امتداداً للخلافة الإسلامية. وبالتالي، تتولَّد أزمة أخرى، تتمثل في النديَّة على أساس عرقي، بين خلفاء العرب وخلفاء الأتراك، وهذا ما تدعمه الدعاية المبنية على الأحلام والرؤى التي تتواتر في كتبهم عن أنهم امتداد للخلفاء العرب.
مُتلازمة الأضداد في «مُعاداة العثمانيين»

طرح قورشون فرضية معاداة العثمانيين، وأنها شهدت مراحل متعدِّدة، وباتت تُستخدم أداة للتنافس الإقليمي مع تركيا، وتأخذ بُعداً جديداً غير مسبوق.
ومما يبدو أن السياسة التركيَّة الحالية تنتهج الأسلوب العثماني، بما فيه من أخطاء وجرائم، فالرفض الأوروبي الحالي لتركيا يُذكرنا بتحويل البوصلة العُثمانية من أوروبا إلى الشَّرق، وهو ما تقوم به تركيا حالياً بعد إخفاقها في الجانب الأوروبي، بتحولها إلى العالم العربي بكل ما في هذه الخطوة من مُخاطرة وفرض حالة من الارتباك السياسي.
أما مُعاداة العثمانيين، فهي فرضيَّة يتوهمها بعض قارئي التاريخ، خاصة أولئك الذين تشبَّعوا بفكرة عداء العثمانيين، سواء كردَّة فعل للحركة القومية العربية والثورة العربية الكبرى التي كانت ضد الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، أو بناء على ما يُشاع من فزَّاعة التأثر بالكتابات الأجنبية.
الحساسية العالية التي يعاني منها الأتراك بالدرجة الأولى، والعرب المتعاطفون معهم، من توجيه النقد إلى العثمانيين، تجعلهم يعدون النقد عداءً مُسلَّماً به، إذ إنهم رفعوا العثمانيين فوق مستوى النقد. ومثل هذا الوضع لم يكن نتيجة حالة نفسية فحسب، بل سياسة قديمة فرضها عبد الحميد الثاني، حين روَّج لأن دولته فوق مستوى النقد، وأسَّس للفكر الفاشي من خلال «حركة الجامعة الإسلامية» التي تطورت أفكارها، وتبلورت في فكر أحزاب وجماعات لا تزال موجودة ماثلة حتى يومنا هذا، منها فكر جماعة «الإخوان» الذي يتلاقح مع الحزب الحاكم حالياً في تركيا.
الأتراك، والمتعاطفون العرب معهم لإعادة الحلم الإمبراطوري، يعانون من مُركَّب نفسي مَرَضي، يتمثل في متلازمتين: الأولى متلازمة الأضداد، والثانية متلازمة ستوكهولم.
أما الأضداد، فتتمثل في تصنيف السلطة بين تابع ومتبوع، إذ تشبَّع الترك بالفكرة الإمبراطورية، وتبعية أجناس وثقافات متعددة، ما أفرز انبعاثاً نفسياً وقناعات غير واقعية في فرض علاقة مع الأضداد على أساس العصبية والانتهاك، من خلال إخضاع الشعوب الأخرى بقومياتها وأفكارها وثقافتها إلى سيطرة تركية تفكيكية، تعمل على سلب إرادتها وحقوقها، وتقويض ملكياتها، في ملكيَّة افتراضية على أُسُس تاريخية.
بالتالي، نشأت علاقة مُلتبِسة بين التابع والمتبوع في عصر الدولة العثمانية، اتَّسمت بالـمُخاتلة والاحتيال والإغواء، والتمنُّع والقوة والقهر والاحتواء، وهذا ما آخر عملية الانفصال العربي عن العثمانيين إلى الحرب العالمية الأولى، حتى أن العرب أُصيبوا بمؤثِّر نفسي عميق أنتج مجموعة منهم متأثرين بهذا الـمُركَّب، فلم ينعتقوا من الحالة المرضيَّة النفسية العامة.
والمتأثرون العرب بالفكر الإمبراطوري التركي تنطبق عليهم «مُتلازمة ستوكهولم»، إذ إن هؤلاء أفرزتهم السياسة العثمانية القديمة، من خلال الإرث المكتوب في كثير من كتب التاريخ، ومن ثم أَحْيَتْه السياسة التركية الحديثة، بحيث أصبح بعض العرب متلذِّذاً متعاطفاً مع عدوِّه، بل معجباً به في الوقت نفسه، فأصبح تحت تأثير الرغبة في الأَسْر والاختطاف من سلطته وثقافته إلى سلطة وثقافة أخرى معجب بها. وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أمثال هؤلاء، وأنهم تشبَّعوا بالتبعية، فصاروا مغلوبين نفسياً، لذلك تولعوا بالغالب وشعاره وزِيِّه ونِحْلته وأحواله وعوائده (ابن خلدون، المقدمة، بيروت: مؤسسة الكتب العلمية، 1994، 1: 156).
ومن السهل جداً إطلاق الأحكام وتوجيه الاتهامات، لكن من الصعب إثباتها وتعميقها لفترات طويلة، لأن هناك حقيقة ماثلة ثابتة لا تتغير مهما طالت فترات غيابها أو تغييبها، لذلك يجب أن يعي الأتراك والعرب المتأثرون بهم أن التاريخ لا يرحم، وأن العرب خلال أربعة قرون سُلِبوا حريتهم وقوتهم، ووقعوا تحت تأثير الثقافة التركية العثمانية التي استنزفتهم، وجعلت منهم جنساً تابعاً كأي جنس آخر، وتعاملت معهم بالقمع والقهر، إضافة إلى أن العالم العربي والعرب أنفسهم خلال الحقبة العثمانية تراجعت الحياة العامة بينهم، إذ توقفت تنمية الوطن والإنسان، وأصبحت الحدود العربية ضمن الدولة العثمانية تدفع ضريبة ذهاب خيراتها وطاقاتها البشرية.
ولعل أكبر دلالة على تعمُّد العثمانيين تأخير العالم العربي ما قام به سليم الأول حين أسقط المماليك في مصر، وقام بعملية تهجير قسري لأبرز أصحاب الحِرف والمهن في القاهرة إلى إسطنبول، وسلب الحياة من المظاهر الحضارية، حتى الرُّخام الذي كان يزين قصور المماليك تم فكه ونقله إلى إسطنبول، ما يُثبت قطعاً أن الأتراك العثمانيين حديثو عهد بالحضارة، لا يختلفون عن الأجناس الفوضوية التي تقتحم وتغزو البلدان المتحضرة.
ناهيك مما حدث طوال فترة الحكم العثماني بعد ذلك، حين سُلِّم العالم العربي لولاة غير عرب عملوا على سلب الخيارات، واحتكار التجارة والاستيلاء على الإقطاعات، ما أحدث طبقيَّة إقطاعية حقيقية على غرار العصور المظلمة في أوروبا.
مثال على ذلك ما كان يمارسه الجيش العثماني في جميع الأقاليم العربية، ومنها العراق، خلال الحرب العالمية الأولى، حين كان الجند يدخلون الأسواق، ويأخذون منها من دون ثمن، ويتعاملون مع التجار بسياسة القهر والتنكيل، كإتاوة نظير وجودهم بعيداً عن بلدانهم بأمر دولتهم التي كانت تتأخر عليهم في مرتباتهم، فتطلق أيديهم في خيرات البلدان تعويضاً عن ذلك.
وممارسات العثمانيين ضد العرب مليئة بأنواع القسوة والتعذيب والتنكيل منذ الغزو الأول لجيش سليم الأول الذي دخل الشام ومصر، واقترف في الناس فساداً، حتى أنهم كانوا يخطفون النساء ليفعلوا بهن الفواحش، كما وصف ابن إياس في «بدائع الزهور»، وكان هذا ديدنهم في كل أرض يدخلونها في الغالب، مما صورته المصادر التاريخية في العالم العربي. ناهيك من حركة التجنيد الإجباري التي فرضوها على العرب، إذ كانوا يأخذون الشبان العرب من بيوتهم، ومن بين أهاليهم، ويزجون بهم في جبهات الحرب قسراً، من دون أن يحصلوا على تدريب أو موافقة أو معرفة بقضيتهم التي يحاربون من أجلها (محمد بن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق: محمد مصطفى، ط3، القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2008م، 6: 233؛ سعيد طوله، سفربرلك وجلاء أهل المدينة المنورة إبان الحرب العالمية الأولى 1334-1337هـ، ط2، المدينة المنورة: النادي الأدبي الثقافي بالمدينة المنورة، د.ت، 186).
والاستبداد العثماني ضد العرب متمثل وممتد وواقع، ففي حماة في بلاد الشام قاموا بإرسال حملة سنة (1106هـ-1685م) لتأديب الناس فيها والتمثيل بهم بعد إخراجهم الوالي العثماني لتزايد مظالمه. وسنة (1119هـ-1698م)، أُرسلت حملة لحرق بلدة غزير اللبنانية. وبعدها بسنة، أرسل والي دمشق العثماني جيشاً لنابلس، فقتل أهلها، وسبى ما يقارب 700 امرأة منها، الأمر الذي اضطر الفقراء من عرب الشام إلى الهجرة جراء الظلم والاستبداد، وتسخيرهم بطريقة مهينة. ومن وحشيتهم أن ولاتهم كانوا يضعون الرجال في الشام على الخوازيق، والنساء يضعونهن في الخيش مع شيء من الكلس، ويلقون بهن في النهر، إضافة إلى تكرار حرقهم القرى وقطع الأشجار، علماً بأن طرق التعذيب الشنيعة لم يعرفها العرب سوى مع دخول العثمانيين بلادهم، كالخوازيق التي تمثل أشد أنواع الجريمة بغرس الخازوق داخل جسد الضحية، وتتم مكافأة من يقوم بخوزقة العربي وقتله ببطء كي يتعذب أطول فترة ممكنة، إضافة إلى تلذذهم بالتمثيل بجثث القتلى من العرب، وقطع أجزاء من أجسادهم، خاصة أذانهم التي كان يتفاخر أكثر القادة جمعاً لها (أمين الريحاني، النكبات، بيروت: المطبعة العلمية، 1928م، 45-94).
وقد حاربوا كذلك اللغة العربية بسياسة التتريك عن طريق المطبوعات والوظائف، وفرض اللغة التركية على المعاملات الحكومية كافة، وفرضها لغة لتدريس الطلاب في المدارس في جميع المناطق العثمانية، حتى العربية منها، إذ لم تراعَ خصوصية العرب في حدود الدولة، في محاولة صريحة لطمس الهوية (جبر الهلول، الاتحاديون والجمعيات السرية العربية 1908-1916م، ألمانيا: نور للنشر، 2017م، 8-10). فالعرب شعروا بأن الرفع من قيمة اللغة التركية، وفرضها عليهم لغة رسمية، فيه إهانة كبرى لهم في ولاياتهم، وزاد الأمر سوءاً بين العرب أن القيادة السياسية في الدولة كانت شديدة في فرض التتريك، خاصة أن الأمر لم يكن مألوفاً لدى العرب، إذ لم تظهر أي تسامح في تطبيقها. وفي محاربة واضحة صريحة لاستخدام اللغة العربية في المعاملات الرسمية، فُرض على العرب في جميع أنحاء العالم من رعايا الدولة العثمانية مخاطبة سفاراتهم بالتركية، حتى أن المسؤولين في الولايات العربية كانوا يتفاهمون مع الناس من خلال مترجمين. ومما يثبت ذلك أن كثيراً من أفراد الأسرة الخديوية في مصر منذ بدئها إلى نهايتها في خمسينيات القرن العشرين، التي حكمت فترة من تاريخها في ظل الدولة العثمانية، لم يكونوا يتحدثون العربية بطلاقة، إذ أن أغلبهم لا يتحدث إلا التركية (راندال بيكر، مملكة الحجاز، ترجمة: صادق الركابي، عمَّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2004م، 64؛ محمد جميل بيهم، فلسفة التاريخ العثماني، بيروت: المطبعة التجارية، 1954م، 1: 190؛ عضو جمعية عربية سريَّة (مجهول)، ثورة العرب الكبرى 1916م، حَمَاة: مطابع أبي الفداء، 1916م، 26).
وختاماً، فإن ما يُفسِّر ما قاله قورشون حيال معاداة العثمانيين انزعاجُ السياسة التركيَّة الحالية من القراءة التاريخية الواعية، وفق الإطار الوطني الذي بات مرهقاً للأتراك، بصفته يُهيئ لمرحلة جديدة في المطالبة بحقوق مسلوبة في فترات تاريخية سابقة.
وفي الحلقة الثالثة، نستكمل القضايا التركيبية للتاريخ مما جاء في طرح قورشون.