حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

بين «سدين» ومَيَّه!

لم يعد خافياً على أحد أن العالم العربي مقبل على أزمة مائية وجودية بامتياز. ومنذ وقت غير بسيط، طُرح العديد من الحلول للتعامل مع كابوس أزمة المياه القادمة هذه، واقتُرح وقتها العديد من الأفكار، منها ما كان أقرب للخيال العلمي مثل جلب جبل جليدي من القطب الشمالي وإذابته وتخزينه، وصولاً إلى إنشاء نهر صناعي عظيم يخترق الصحراء، حتى استقر الأمر على حلول معقولة وممكنة، وإن كانت ذات تكلفة ليست بالقليلة، مثل تحلية مياه البحر والحفر الارتوازي العميق جداً للمياه الجوفية.
وأزمة المياه في العالم العربي ليست بالجديدة أبداً، فلقد تطورت عبر الوقت نتاج أسباب تقلبات وتغيرات مناخية حادة أو اعتداءات على الأراضي أو حروب جيو - سياسية أو بفعل فاعل، مثل إنشاء السدود العملاقة. شح المياه والاعتداء على حقوق الدول المائية من مياه الأنهار والبحيرات هي حالة عاشها لبنان والأردن وسوريا والعراق بسبب تجاوزات عنيفة حصلت في حقهم من كلٍّ من إسرائيل وتركيا وإيران لأسباب تتعلق بتحويل مسارات المياه أو كما هو في الحالة التركية عندما شُيّد سد أتاتورك على نهر الفرات وأثّر بشدة في حصتي العراق وسوريا من مياهه.
كان شح المياه من أخطر أسباب الانقلاب الاقتصادي الاجتماعي في كلٍّ من العراق وسوريا، إذ إنه كان سبباً رئيسياً في تدهور الأوضاع المعيشية للمزارعين في جنوب العراق ومنطقة حوران السورية وهجرتهم بعشرات الآلاف إلى المدن بحثاً عن فرص العيش الكريم، وتوالت بعدها الأحداث العاصفة في البلدين كما بات معروفاً.
واليوم هناك تحدٍّ وجودي واستثنائي بالنسبة إلى البلد العربي صاحب التعداد السكاني الأكبر، مصر، في مواجهة مشروع سد النهضة الإثيوبي، الذي سيصبح أكبر سدود القارة الأفريقية. سيحرم السد في حال امتلائه في الفترة «السريعة» المقررة من إثيوبيا كلاً من مصر والسودان، من نسبة عظيمة من حصتيهما التقليدية في مياه النيل المستخدمة للشرب وللزراعة في بلدين يعتمدان بشكل أساسي على الزراعة في مداخيلهما الاقتصادية. وتعد إثيوبيا هذا السد المشروع الأهم في تاريخها الحديث، فهو بالنسبة إليها الجسر الذي ستعبر به من مصافّ الدول المنهكة والفقيرة لاستعادة «إرثها ومجدها التاريخي القديم» إلى مصافّ الدول الواعدة. ولذلك تم «شحن» الشعب الإثيوبي لسنوات طويلة لإقناعه بالمساهمة في تمويل السد عبر إصدار «سندات تمويل شعبية» لأجل ذلك الأمر، وعليه تم اختيار اسم جديد ومناسب للمشروع وهو سد النهضة.
القارة الأفريقية هي الفرصة الأخيرة الموعودة للصناديق الاستثمارية المفتونة بالأسواق الناشئة التي عادةً ما تكون ذات عوائد (ومجازفة) أكبر، وقد حددت المصارف الاستثمارية كلاً من مصر ونيجيريا وجنوب أفريقيا وإثيوبيا كأهم وأكبر الأسواق المغرية للاستثمار (تلاها كل من المغرب ورواندا وغانا وكينيا).
والكهرباء الفورية الناتجة عن إنتاج السد هي الوسيلة الذهبية التي ستمكّن إثيوبيا من توفير مبالغ الطاقة وتوسيع الرقعة الصناعية والبنية التحتية ليمكّنها من تحسين قدراتها التنافسية لجذب الاستثمارات الدولية. وفي ذلك المسار تستعير إثيوبيا صفحة من كتاب الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر وتعامله مع مشروع السد العالي الذي كان يقدَّم للناس بنفس الطريقة ونفس الطرح الاقتصادي والسياسي والوجداني.
مصر هبة النيل، كما وصفها عالم التاريخ اليوناني هيرودوت، ذات يوم، وتعلق المصريين بنيلهم شبه أسطوري، وذلك منذ عهد قدماء المصريين، فهم سكنوا إلى جواره وزرعوا بمياهه وأقاموا له الأعياد وغنوا له أعذب الألحان من «شمس الأصيل» وصولاً إلى «يا حلو يا أسمر»، وبالتالي مفهوم جداً الشعور بالقلق في مصر على مستقبل العلاقة مع النهر العظيم.
تخطئ إثيوبيا عندما تشبّه قرارها بقرار مصر عندما بنت السد لأن مصر دولة مصب وإثيوبيا بلد منبع للنهر، فمصر عندما بنت سدها العالي لم تؤذِ جيرانها في النيل على عكس المتوقع من تبعات القرار الإثيوبي بخصوص سدها. هناك سابقة دولية مهمة للبنك الدولي في تمويل أحد السدود في أميركا الجنوبية عندما «اشترط» ألا تتضرر أي دولة من الدول التي يجري فيها النهر المعنيّ، لم يتم اعتماد هذه السابقة من إثيوبيا بحجة أنها لا تعتمد على البنك الدولي في تمويل هذا المشروع.
حصة مصر من مياه النيل هي مسألة «أمن عربي» كما وصفها بشكل دقيق الموقف السعودي الرسمي الأخير.
أخشى ما أخشاه أنه بعد استباحة الأراضي العربية من إسرائيل وتركيا وإيران، تنضم إليها اليوم إثيوبيا لاستباحة المياه العربية!