جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا: سؤال الحرب والسلام

المتابعون لوسائل الإعلام الغربية عموماً، والبريطانية خصوصاً، لا تفوتهم ملاحظة عودة اسم ليبيا إلى الطفو فوق مياه السطح، خلال الآونة الأخيرة، في نشرات الأخبار والبرامج الإخبارية. ويمكن القول من دون تحفظ، إن هذه العودة ليست مبعث سرور وبهجة، لأن تجارب العقود الزمنية الماضية، باستثناء فترات متقطعة ومحدودة، أثبتت أن طفو اسم ليبيا في الأخبار يكون، دائماً، مرفوقاً بأخبار سيئة، ومدعاة للتوتر والقلق.
والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها، والتعامل معها بواقعية، هي أن ما أطلق عليه سابقاً اسم الحرب الأهلية الليبية لم يعدّ، بأي حال، وصفاً ينطبق على مجريات الأمور في ليبيا فعلياً. الحرب الليبية حالياً ليست ليبية، بل تجاوزت محليتها، وصارت، واقعياً، حرباً تخوضها دول عدة إقليمية وأوروبية، كانت في الأعوام الماضية تكتفي بلعب أدوارها من وراء الكواليس، وتحريك خيوط المشهد من بعيد، ومقتصرة على تزويد حلفائها من الجماعات المسلحة الليبية بالمال والسلاح والمرتزقة والدعم السياسي.
التنافس الإقليمي والأوروبي على مناطق النفوذ وحماية المصالح خرج، مؤخراً، إلى العلن، بعد تراجع وانسحاب القوات المهاجمة لمدينة طرابلس بقيادة المشير حفتر، كنتيجة مباشرة للتدخل التركي، ما أسهم في تقدم قوات حكومة الوفاق إلى حدود مدينة سرت، وتهديدها لمنطقة الجفرة. مدينة سرت صارت خطاً أحمر ليس مسموحاً لتلك القوات بتجاوزه. لكن الصراع الإقليمي والدولي وتحديداً بين تركيا من جهة، وفرنسا وروسيا من جهة أخرى، تفاقم سريعاً في الآونة الأخيرة، بشكل يهدد بتقويض السلام وتوسيع مجال المعارك.
في الأسبوع الماضي، وباعتراف تركي رسمي، قامت طائرات مقاتلة مجهولة الهوية بالإغارة على قاعدة الوطية الجوية، قرب الحدود التونسية، ودمرت وحدة صواريخ دفاعية تركية. وقبلها قام وزير الدفاع التركي بزيارة رسمية إلى ليبيا، واجتمع بالقوات التركية المرسلة إلى ليبيا، ونقلت وسائل الإعلام المحلية والدولية الخبر. هذا التمدد التركي العسكري في ليبيا، وفقاً لتقرير إعلامي بريطاني، أدى إلى توتر في العلاقات بين تركيا وفرنسا العضوين في حلف الناتو، وأغضب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي وصفه بـ«عمل إجرامي». التوتر الحالي بين الدولتين، استناداً إلى التقرير ذاته، كشف عن «تصدعات في تحالف الناتو العسكري، وأثار أسئلة حول ما الذي تسعى باريس لتحقيقه في المنطقة»، رغم حرص الرئيس الفرنسي على تأكيد حيادية بلاده في الصراع الدائر. ووفقاً لتقرير آخر، «أصدرت موسكو تعليماتها بنقل قوات مرتزقة وأسلحة إلى ليبيا فيما يتوقع له أن يكون معركة حاسمة على منشآت النفط ضد القوات المدعومة من تركيا». الجدير بالملاحظة، أن غرض موسكو من التدخل في الصراع الدائر في ليبيا يختلف عن كل من الغرضين الفرنسي والتركي، لأن هدفه، كما تؤكد التقارير الإعلامية، إعادة سيف الإسلام القذافي وأنصاره إلى المسرح الليبي، وتمكينهم من المشاركة في أي انتخابات رئاسية أو برلمانية مقبلة. وأنها للسبب ذاته «بدأت في تجنيد مقاتلين لصالحه من الميليشيات المناصرة للنظام السابق في البلاد».
سؤال استعادة السلام في ليبيا، حالياً، لا يحظى باهتمام من كل الأطراف - محلياً وإقليميا وأوروبياً - المتورطة في الصراع، في وقت بدأت فيه الضغوط تدفع باتجاه العودة إلى ميادين القتال، وحسم الأمور عسكرياً، ونهائياً. وفي هذا السياق، نقلت الأخبار مؤخراً، خبر قيام المشير حفتر بإحداث تغييرات كبيرة بين كبار ضباطه القياديين، وفي غرف العمليات، وكذلك اجتماعه معهم في مقر قيادته بمدينة الرجمة. وترافق ذلك مع خروج آلاف المواطنين في مدينة بنغازي في مظاهرة حاشدة منددين بالتدخل التركي، وواصفينه بالاحتلال. وفي الوقت ذاته، فإن التدخل التركي يحظى في مناطق من غرب البلاد بالتأييد.
التحشيد العسكري الحالي على الجانبين سيقود، من دون شك، نحو مواجهة بين الطرفين المتصارعين، في ميادين معارك صحراوية مفتوحة. وستكون مدينة سرت الجائزة التي ستمنح المنتصر حق المرور إلى المنشآت النفطية القريبة، والسيطرة عليها بقوة الأمر الواقع.
حالياً وواقعياً، شئنا أم أبينا، ليبيا دولتان، ومدينة سرت حدودهما الفاصلة؛ واحدة في الغرب باسم حكومة الوفاق، وأخرى في الشرق بحكومة معترف بها من قبل البرلمان. هناك احتمال بالخوف من أن تتفكك وحدة البلاد، وتنزلق سريعاً نحو هاوية التقسيم، ما لم تتوصل الأطراف المتنازعة إلى قناعة باستحالة تحقيق حسم عسكري، وضرورة التوافق على التباحث والتفاوض من دون استثناء أو إقصاء لأي طرف. وهذا يعني بالضرورة، بالدرجة الأولى، الأطراف الخارجية المتورطة في النزاع، التي تمتلك بين يديها، منذ وقت، مفاتيح الحل والربط. وأن وضع نهاية للتحارب واستعادة السلام والاستقرار لن يكون إلا بوصول هذه الدول إلى تفاهم يضمن ويحمي مصالحها مستقبلاً. وإلى أن يحدث ذلك، سيظل شبح التهديد بالحرب مخيّماً على ليبيا، ومصدر توتر واضطراب يهدد الاستقرار.