عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«كورونا» ينذر بفقدان الثقة بحكومة جونسون

من شاطئ بورنموث الإنجليزي إلى شاطئ ريو دي جانيرو، ومن أسواق نيويورك إلى أسواق القاهرة الفاطمية، يزدحم الناس ضاربين عُرض الحائط بنصائح ومسؤولي الصحة، معرضين أنفسهم لخطر العدوى ونشر «كوفيد - 19» المستجد بين بقية سكان البلاد.
لماذا، خاصة أن الظاهرة أصبحت عالمية لا تقتصر على بلد واحد باستثناءات أقلية بلدان في شرق آسيا نجحت في حصار العدوى مبكراً؟
الأمر في اعتقادي ينحصر في العلاقة بين الحكومة والمحكومين، سواء كانت الحكومة منتخبة ديمقراطياً أو قائمة الاستمرار بالتقاليد والإجماع، أو بوسائل أخرى.
هل فقد المواطن الثقة بالحكومة على مستوى العالم؟ خاصة أن معظم الحكومات تتعرض لضغوط الأعباء الاقتصادية التي سببها الحجر الصحي وإغلاق النشاطات التجارية للحد من انتشار الوباء؟
وباء «كورونا» العالمي كان مجرد عامل مساعد فجر تيارات كانت تحت السطح بشكل سيغير من مفهوم السلطة وقبول المواطن للحكومة، ويضيف الجديد من الدراسات إلى مكتبة العلوم السياسية في المستقبل.
هل جعلنا الوباء نطالب بأن تفعل الحكومة كل شيء لنا؟ فمثلاً توفر الحكومة البريطانية أسبوعياً الحاجات الأساسية للمنعزلين في الحجر لأسباب صحية (قرابة المليون) وتوفير 80 في المائة من دخول العاملين المعزولين. أم نخشى من زيادة سلطاتها الأوتوقراطية؟
صحافة يمين الوسط تحذر بأن إجراءات الحكومة بروفة لتوسيع وتقوية نفوذها الأوتوقراطي على حساب المكتسبات الديمقراطية؛ وتطالب بأن يترك الأمر للمواطن لاختيار الإجراءات الأفضل له ولأسرته. لكن بدا نقص وعي هذا المواطن من مشاهد ازدحام البلاجات والأسواق.
الصحافة اليسارية تريد دوراً اشتراكياً للحكومة لكنها، بشيزوفرانية، تبدو مغتبطة لمتاعب الحكومة المنتخبة وهمها إحراج الوزراء بلا طرح أسئلة تهم المواطن مثل حقيقة عدم توفير أجهزة التنفس الصناعي للمرضى كبار السن، وأرقام دقيقة لمن حرموا من علاج أمراض أخرى. كما تستغل الصحافة أزمة طبية في جوهرها لتصفية حسابات سياسية وإعادة فتح ملفات كإلغاء الـ«بريكست» والبقاء في الاتحاد الأوروبي.
وترى على مواقع وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية والصحافة الممولة من «الإخوان المسلمين» وتركيا استغلالهم لضحايا «كوفيد - 19» لمهاجمة حكومات كمصر والإمارات والسعودية وإدارة ترمب وبقية خصوم «الإخوان».
الصحافة الغربية يميناً ويساراً تهاجم الصين كالمسؤول الأول عن المصيبة، وكأن بقدرة بكين الضغط على زر فتحول مسار انتشار الفيروس. الحكومات الغربية مغتبطة لهذا الاتجاه لأنه يبعد الأنظار عن تقصيرها في شهري فبراير (شباط) ومارس (آذار) وتحركها المتأخر.
هذه الخريطة الجيوبوليتكية تشوش الرأي العام وتفقده ثقته بالحكومات.
انتشار التعليم أدى إلى اتساع رقعة المثقفين كفئة ينبثق عنها ساسة ووزراء الحكومة، فهل يمثلون الشعب؟
من لندن إلى دلهي، ومن القاهرة إلى كيب تاون، تجد الأحزاب السياسية، حكومة أو معارضة، ومنتجي البرامج الإخبارية ومحرري الصحف من الطبقات الميسورة اقتصادياً والمتميزة اجتماعياً، 30 في المائة من البريطانيين من خريجي جامعات دخلهم أعلى من متوسط دخل الفرد و70 في المائة من السكان دونه، وتتسع الفجوة بينهم وبين الفئات الشعبية التي انتخبتهم أو يدعون تمثيلها. حزب العمال البريطاني لم يعد يمثل الطبقة العاملة؛ الحشد الشعبي رغم اسمه لا علاقة له بأغلبية الشعب العراقي.
الساسة يحاولون الظهور بأنهم أفقر من حالتهم ومن بيئة أكثر تواضعاً من حقيقتهم، زعماء اليسار البريطاني مثلاً تعلموا في «إيتون» (مدرسة بوريس جونسون وديفيد كاميرون) ومعظم صحافيي اليسار الاشتراكي من مدرسة هاروو (مدرسة ونستون تشرشل) وكلهم بلا استثناء خريجو أكسفورد وكمبريدج.
فقدان المصداقية مع النفس تجعل الوزراء الذين لم يجربوا الحياة العملية للفقراء، يترددون في اتخاذ قرار ما، إذا كان في صالح الشعب، كتردد حكومة جونسون ثم فتحها السوق الاستهلاكية أمس بلا ضمانات اتباع المواطنين لإجراءات السلامة من العدوى.
وكلما كان المجتمع أكثر انفتاحاً ديمقراطياً ازداد التوتر لأن أعضاء الحكومة يدركون قدرة الشعب على طردهم من مواقعهم في صناديق الاقتراع.
والشعوب لا تزال تتأثر بالشعارات أكثر من الأفعال. فالحزب القومي الاسكوتلندي شعاره استقلالي انفصالي؛ ورغم سوء أدائه الاقتصادي في الحكم الذاتي فإنه نجح في محاصرة وباء «كوفيد - 19» لأن الشعب الاسكوتلندي (5.5 مليون) يتبع إرشادات حكومته نكاية في حكومة لندن التي تهاجمها نيكولا ستيرتن الوزيرة الأولى لاسكوتلندا، بينما لا يثق الإنجليز (56 مليوناً ليس لهم حكومة ذاتية منفصلة) بالحكومة الاتحادية المركزية نفسها.
الناس يحصلون على المعلومات بأنفسهم ؛ فالإنترنت وسهولة وحرية الحصول على المعلومات جعلت مهمة الحكومات سواء ديمقراطية تتغير بالانتخاب، أو تقليدية تحكم بالإجماع، أو ديكتاتورية مطلقة بآيديولوجيا علمانية أو ثيولوجية، كالصين وإيران، أكثر صعوبة في التحكم في تصرفات المواطنين وتوجيهها.
في بريطانيا مثلاً كنا كمواطنين سبقنا الحكومة بشهر كامل في توصيف أفضل إجراءات احتواء الوباء بالاطلاع على أرقام منظمة الصحة العالمية وعلى أداء بلدان ناجحة كتايوان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، وهو ما فشلت فيه حكومة بوريس جونسون وكان يمكنها تجنب قرابة 30 ألف وفاة (من مجمل 62 ألف) لو اتبعت الإجراءات مبكراً. لكنها تصرفت بالتقاليد البيروقراطية وانتظرت نصائح خبراء الطب والصحة، وبدورهم وازنوها بالإمكانيات المتاحة، فتخلفت عن المواطنين الذين أتاحت الإنترنت المعلومات لهم.
مع فقدان الثقة إذن، المواطن في معظم بلدان العالم سيتخذ قرار التعامل مع الوباء مستقلاً عن الحكومة بموازنة خيارات متشابكة ومعقدة. احتمال الإصابة بالعدوى مقابل الفائدة الاقتصادية أو المتعة الحسية بالمجازفة بتجاهل بإرشادات الوقاية.
مدى احتمال المرض الخطير أو ربما الموت مقابل السلامة مجازفة بخسائر مادية أو متاعب نفسية من العزلة أو الحرمان من متع الحياة في حال الشباب. الموازنة بين الخيارات تعتمد على المعلومات المتوفرة عن انتشار الفيروس في المكان المقصود، لكن القرار أيضاً يخضع للحالة العاطفية والمزاجية. الأخيرة بدورها تتأثر بذكريات الطفولة، فمن شبوا في بيئة آمنة اقتصادياً واجتماعياً يجازفون لأنهم لم يواجهوا أخطاراً تعطيهم المناعة السيكولوجية للتعامل مع الأزمات، أما الذين شبوا في بيئة من الحرمان فقد يتعاملون، إما بحذر شديد متوجسين من الغير والآخرين، أو بلا مبالاة بمنطق «ضربوا الأعور على عينه»، ويتناقص دور المعلومات مهما كانت دقتها، إذا مال الميزان لناحية الخبرة الشخصية.
الأخطر تجاهل المسؤولية الفردية عند عجز المواطن عن تغيير الحكومة ويزداد اعتماده على «الجهة المسؤولة» لتتخذ القرار نيابة عنه، خاصة إذا شب معتمداً عليها في الوظيفة والمسكن والعلاج.