جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

وجوه كممها الخوف

خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية الأخيرة، التي جاءت بالرئيس الحالي دونالد ترمب إلى الحكم، كان المترشح عن الحزب الجمهوري، وقتها، يخرج في تعليقاته وخطبه، بشكل لافت ومثير، عن الخطط المرسومة والمتفق عليها من قبل مستشاريه الموكل إليهم تدبر أمر وصوله إلى البيت الأبيض. وهذا، بدوره، جعل وسائل الإعلام تلاحق كل جملة تنبس بها شفتاه، وكل تغريدة يطلقها على حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي. تفاقم الأمر خلق حالة من التوتر بين أعضاء فريق قيادة الحملة، أدت إلى الخصومة والانقسام. فريق منهم يطالب بضرورة التزامه بما يتفق حوله من خطط، وفريق آخر يرى «دع ترمب ليكون ترمب». الفوز في تلك المعركة، كان للأخير.
ما حدث في تلك الحملة لم ينتهِ بوصول المترشح ترمب إلى سدة الحكم، بل تواصل فيما بعد وتسبب في الكثير من المشاكل التي اتفقت آراء المستشارين والمسؤولين والمعلقين الإعلاميين على أنه لا ضرورة لها، ومن الممكن والأفضل تجنّبها وتوفير الوقت والجهد لقضايا أهم وأخطر. آخرها كان تصميمه على عدم ارتداء كمامة على وجهه حماية من الإصابة بالوباء الفيروسي، في مخالفة صريحة لنصيحة أعضاء فريقه من المستشارين الصحيين.
الحقيقة، هذه المرّة، تحديداً، لم يكن الرئيس ترمب مخطئاً في رفضه لوضع كمامة على وجهه، من وجهة نظر ليبرالية وتتعلق بالحرية الشخصية، ومن وجهة نظر علمية - صحّية. أو هذا، على الأقل، ما توصلتُ إليه شخصياً من خلال متابعتي لحرب اشتعلت مؤخراً في الإعلام البريطاني، ضد تغطية الوجوه، يقودها ليبراليون، من اليمين واليسار، يحرّضون ضد استخدام الأقنعة أو الكمامة، لأنها، في رأيهم، من ضمن وسائل جديدة ابتدعتها الحكومة ليس بغرض حمايتنا صحّياً من الوباء، بل لتحويلنا إلى قطيع «بلا أفواه، وبنظرات خاضعة، وتعودنا على تنفيذ ما يصدر إلينا من تعليمات، مهما كانت سخافة تلك التعليمات. وإذا وافقتَ على ذلك التدخل في حياتك، فماذا سترفض مستقبلاً؟» وكتب بعضهم سخرية أن وضع كمامة لا يختلف عن وضع حفاضة أطفال على الوجه. وهم يرون أن الأمر لا جدوى منه ما دامت الحكومة نفسها لا تؤمن بوجود فائدة من وضع الكمامة، كما يؤكد ذلك الدليل الذي أصدرته حول إعادة فتح المحال التجارية، والذي ينصُّ في أحد بنوده على أن «البرهان على فائدة استخدام تغطية الوجه لحماية الآخرين ضعيف، ومن المحتمل أن يكون صغيراً». لذلك، فإن أحد أعضاء هذا الفريق، وهو صحافي معروف، قال إنه يضع على وجهه قناعاً للحماية من الغازات السامة تهكماً كلما اضطر إلى استخدام المواصلات العامة. ويؤكد أعضاء هذا الفريق أن أقلية من المغالين المتحمسين لا تتجاوز نسبتهم 15 في المائة يسعون لفرض هذا الأمر غير المنطقي، والمجافي للحقيقة العلمية، وأن الأغلبية لن تتوانى عن بلع هذه الدعاية والامتثال.
وشخصياً، أحسُّ بكثير من عدم الاطمئنان لأصحاب هذا الرأي بسبب قوة حجتهم على الإقناع، إلا أن خوفي من الإصابة بالفيروس أقوى من أي حجة، رغم أن التجول على أرصفة أحياء وشوارع، وفي أروقة أسواق تمتلئ ببشر بوجوه بلا ملامح، جعلني أشعر بنوع من عدم الارتياح، وأحسسني وكأني أعيش في عالم من الخيال العلمي، ببشر يتجنبون بعضهم بعضاً، ويتفادون النظر إلى بعضهم بعضاً.
ومن ملاحظاتي الشخصية، في الفترة الأخيرة، تبيّن لي أن الشارع البريطاني في أغلبه انصاع ممتثلاً لتعليمات الحكومة بوضع الكمامة على الوجه، خاصة في استخدام المواصلات العامة، وأن نسبة النساء اللواتي يمتثلن للأمر تفوق بكثير نسبة الرجال، وبشكل ملحوظ، مما دفع بالعديد من المعلقين الإعلاميين إلى لفت الانتباه لذلك، ومحاولة معرفة الأسباب وراء تحمّس النساء أكثر من الرجال لإخفاء ملامح وجوههن، رغم تعارضها الشديد مع حرصهن على إظهار مفاتن جمالهن، وما يثيره ذلك في أنفسهن من مشاعر الفخر بأنوثتهن.
أكثر الإجابات إقناعاً، عن ذلك التساؤل، جاءت من صحافية تدعى كيتلن موران أوضحت فيها أن امتثال النساء للأوامر والتعليمات، سواء من الحكومة أو من ولاة أمورهن، ليس جديداً، بل هو جزء لا يتجزأ من حيواتهن، تعوّدنه منذ الصغر، بهدف حمايتهن. وأن مسألة تعرضهن للمخاطر جعلتهن نفسياً أكثر استعداداً من الذكور لتقبل النصائح، لأنه استناداً للإحصاءات الرسمية، فإن النساء أكثر تعرضاً للاعتداء، بدنياً ولفظياً وجنسياً، في كل المجتمعات. واستشهدت بالعديد من الأرقام والإحصاءات الرسمية لعدد من السنوات. وبالتالي، فإن النساء وجدن أنفسهن في واقع حياتي يتطلب منهن الاستماع إلى ما يصدر إليهن من نصائح وإرشادات وتعليمات من مختلف الجهات، بهدف إبعادهن عن التعرض للمخاطر. وأن المسألة تتجاوز وضع كمامة على الوجه لفترة مؤقتة، بل، قديمة، وتطال كل مظاهر الحياة الأخرى من مأكل وملبس وسلوك. وأن سؤال امرأة لأخرى حول رأيها فيما يتعلق بارتداء زي معيّن، لا يتوقف عند التقييم الذوقي والجمالي، بل يتعداه ضمنياً إلى التقييم الأمني، بما يضمن عدم تحوّله إلى مبرر للاعتداء عليها جنسياً، في وقت متأخر قليلاً.