وانغ هوياو
TT

أميركا والصين وإنعاش الاقتصاد العالمي

تزيد جائحة وباء كورونا المستجد من كثافة الاتجاهات الأكثر تدميراً في التجارة العالمية. ولقد أفسح مجال دعم التجارة الحرة الأجواء للحديث عن الانفصال التجاري والانفكاك عن العولمة. وذلك في ظل تصاعد المواجهات التجارية - وغيرها - ما بين الولايات المتحدة والصين، فضلاً عن كثافة الدعوات المنادية بالحمائية وإعادة توطين سلاسل التوريد العاملة في الخارج. ولم تعد محاولات دمج البلدان التي تملك الأنظمة الاقتصادية أو الآيديولوجيات الفكرية من الأمور المرغوب فيها، وإن حتى الممكنة على أي صعيد يُذكر.
ومن شأن محاولات عكس تلك التوجهات أن تستلزم اتخاذ إجراءات مصيرية كبيرة. فمن شأن قرار واحد أن يحدث فارقاً حقيقياً، وذلك بالنسبة إلى الصين من حيث الانضمام إلى معاهدة التجارة الكبرى في المحيط الهادئ، التي تصدرت الولايات المتحدة زعامتها في حين، ثم تخلت تماماً عنها في حين آخر.
وقبل عام ونصف العام من الآن، دخلت «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» - وهي المعاهدة التي ورثت «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ» الأكثر اختصاراً قبلها - إلى حيز التنفيذ الفعلي. ووصفت حينذاك بأنها الاتفاقية التجارية من «الجيل الثاني»، وذلك من أجل اعتمادها للمعايير العالية وتركيزها بالأساس على القطاعات التجارية والاقتصادية الناشئة. وتغطي تلك المعاهدة 11 دولة، وما يقرب من نصف مليار نسمة، وأكثر من 13 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي لكل تلك الدول الأعضاء.
ويُشهد للاتفاقية قدرتها على استيعاب النظم الاقتصادية والأنظمة السياسية المختلفة للغاية. وتضم بين دولها الأعضاء والبلدان الديمقراطية الصناعية الغربية، على غرار كندا وأستراليا، فضلاً عن الأسواق الاقتصادية الناشئة في قارتي أميركا اللاتينية وآسيا، مع دولة فيتنام الاشتراكية.
وفي الوقت المفعم بالكثير من التحديات غير المسبوقة على صعيد التجارة العالمية، تمهد التزامات «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» العميقة والمتشابكة الأجواء لتعزيز النمو الاقتصادي والإقلال من حالة عدم اليقين الراهنة. ولقد أبدت العديد من البلدان اهتمامها بالانضمام إلى تلك المعاهدة. كما شكلت تايلند لجنة معنية بتقدير ما إذا كان ينبغي على الحكومة السعي وراء الانضمام إلى تلك المعاهدة من عدمه. ومن شأن المملكة المتحدة أن تشرع في وقت قريب في مفاوضات تجارية ثنائية مع اليابان، وهي التي تعدها حكومة رئيس الوزراء بوريس جونسون بمثابة دفعة انطلاق إلى الأمام على مسار الانضمام إلى «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ».
ومع نهاية مايو (أيار) الماضي، كان السيد لي كي تشيانغ - رئيس مجلس الدولة الصيني - قد اقترح على حكومة بلاده التفكير في الانضمام إلى «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ». وما يزال ذلك المقترح يكتسب المزيد من الزخم عبر العديد من المناقشات والمداولات في دوائر صناعة القرار السياسي في الحكومة الصينية.
وهناك عقبتان واضحتان على طريق حصول الحكومة الصينية على عضوية تلك المعاهدة: أولاً، أن النظام الاقتصادي في الصين لا يتسق مع معايير العضوية المقررة للانضمام إلى المعاهدة. على سبيل المثال، لا بد من تحديث، وربما تعديل، اللوائح الصينية ذات الصلة بالدعم المادي للشركات والمؤسسات المملوكة للحكومة الصينية، فضلاً عن مراجعة القيود المفروضة على نقل البيانات عبر الحدود الدولية.
ومع ذلك، تقترب الإصلاحات الحكومية المحلية في الصين مع «المرحلة الأولى» من الصفقة التجارية مع الولايات المتحدة من جبر هذه الفجوة. وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، تسارعت الجهود الصينية على مسار تحسين البيئة الداخلية لصالح الاستثمارات الأجنبية. وتشتمل هذه الجهود على سن قانون جديد معني بالاستثمارات الأجنبية في البلاد، فضلاً عن فتح الأسواق المحلية أمام الخدمات المالية والصناعات التحويلية، وكذلك توفير الحماية القوية للملكية الفكرية في البلاد.
ويمكن انتظار المزيد من هذه الإصلاحات الهيكلية في الصين. إذ أعلنت الحكومة الصينية في الآونة الأخيرة عن تعهدها بتقليص القائمة السلبية، التي تضم القطاعات المغلقة من الاقتصاد الوطني في وجه الاستثمارات الأجنبية بصورة أكبر، مع تفكيك الحواجز غير الرسمية القائمة أمام وصول مثل هذه الاستثمارات إلى البلاد. وفي الثاني من يونيو (حزيران) الجاري، جرى نشر خطة صينية جديدة بهدف بناء أكبر ميناء للتجارة الحرة في قارة آسيا، وذلك على جزيرة «هاينان»، الأمر الذي سوف يكون بمثابة اختبار حقيقي للتحرر الاقتصادي المزمع في الصين. وتأتي هذه الخطوة في أعقاب إصدار المخطط الاقتصادي الجديد الذي يشمل اتخاذ التدابير الموسعة المؤيدة للأسواق مع إصلاح الشركات والمؤسسات الوطنية المملوكة للدولة.
وبطبيعة الحال، ينبغي ترجمة تلك الأقوال إلى أفعال في أرض الواقع.
لكن، ومع انسحاب الحكومة الأميركية من المعاهدة، تراجعت مثل تلك المزاعم إلى زاوية النسيان. ولكن ينبغي علينا إمعان النظر في أمر مهم: من شأن قواعد «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» تحفيز الحكومة الصينية على اتخاذ وتنفيذ العديد من الإصلاحات الهيكلية الداخلية التي طالما طالب بها المسؤولون الأميركيون من قبل الانسحاب، وذلك مثل إخضاع الشركات والمؤسسات المملوكة للحكومة الصينية إلى القواعد الحاكمة لانضباط السوق مع تحسين لوائح حماية الملكية الفكرية. ومن شأن الانضمام إلى تلك المعاهدة أن يعزز من مواقف أنصار الإصلاح الاقتصادي داخل الصين، والذين يمكنهم المجادلة بأن التعديلات والتغييرات التي يطلبها ميثاق المعاهدة تتسق مع أهداف التنمية الوطنية في الصين، بما في ذلك الابتكار ثم الكفاءة، وحتى حماية البيئة.
ذلك، ومن شأن انضمام الحكومة الصينية إلى «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» أن يفيد الدول الأعضاء كما يفيد الاقتصاد العالمي بنطاقه الأوسع؛ إذ سوف تنضم إليه السوق الاستهلاكية الأضخم على مستوى العالم التي فقد مثيلتها مع انسحاب الحكومة الأميركية من المعاهدة قبلا. وفي ظل الوجود الصيني، من شأن المعاهدة أن تغطي أكثر من 28 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومن شأن ذلك أن يزيد بمقدار أربعة أضعاف المكاسب العالمية المحققة من وراء المعاهدة إلى 632 مليار دولار، وذلك وفقاً للتوقعات الصادرة عن معهد بيترسون للاقتصاد الدولي. ومن شأن الانضمام الصيني أن يجلب المزيد من الاقتصادات الإقليمية تحت مظلة مجموعة رسمية من القواعد المعتبرة المدفوعة بتوافق العديد من الأطراف، الأمر الذي يدعم ويؤيد النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي.
أما بالنسبة إلى الصين، فإن المكاسب المحققة هي على القدر نفسه من الوضوح. فمن شأن الانضمام إلى «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» أن يتيح للشركات الصينية مقدرة الوصول الأكبر إلى الأسواق الواسعة ذات الدينامية العالية.
ومن شأن الانضمام للمعاهدة أيضاً أن يعزز من الدور الاقتصادي الصيني في قلب قارة آسيا في الوقت الذي تشهد فيه الأوضاع الاقتصادية للمنطقة تغيرات كبيرة ومتسارعة.
وعلى المدى الطويل، من شأن «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» الموسعة تهيئة الأجواء لإجراء إصلاحات مطلوبة في منظمة التجارة العالمية، وإعادة ضبط مسار أجندة الأعمال التجارة الحرة على مستوى العالم.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»