حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

ثمن المصالح الروسية!

النظرية الأكثر رواجاً في تفسير عملية اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، تزعم أن المخابرات الأميركية حينها جندت فرقة من الإرهابيين التكفيريين لتنفيذ العملية، إلا أن الموضوع يحتمل وجهة نظر أخرى لم تلقَ الاهتمام الكافي وتشير بأصابع الاتهام صوب الاتحاد السوفياتي وتحمله المسؤولية عن ذلك الأمر.
السادات حطم جهوداً استغرقت زمناً طويلاً من السوفيات خططوا فيه للتوغل والتحكم في كافة مفاصل الدولة المصرية عن طريق تبني الاشتراكية كنظام سياسي، والنظام الشمولي المركزي كنظام اقتصادي، والاعتماد العسكري بشكل كامل على العتاد والمخابرات الروسية. جاء السادات بيقين أن السوفيات لا يمكن الاعتماد عليهم كشريك وحليف وأنهم بطبيعتهم مبتزون، ولذلك كانت قراراته بالنسبة للسوفيات صادمة ومدوية. طرد أكثر من 30 ألف خبير روسي من مصر فجأة، ثم قرر التوجه بالاقتصاد المصري نحو الانفتاح الرأسمالي مودعاً الاشتراكية ومودعاً التأميم والاعتماد على القطاع العام.
بعدها «طلق» السادات علاقته العسكرية بالسوفيات تماماً لتصبح الولايات المتحدة المصدر الأساسي للتسليح. ما بناه السوفيات عبر سنوات طويلة من الزمن أصبح هباء منثوراً في لمح البصر. وتظهر هذه المسألة بشكل جلي من خلال مذكرات السفير السوفياتي وقتها لدى مصر فلاديمير فينوغرادوف بعنوان «مصر في زمن الإبهام» الذي أبدى فيها غضبه وامتعاضه واستخفافه بقرارات السادات من دون استطاعته أن يخفي مرارته وخجله وصدمته.
السوفيات كانوا الخاسر الأكبر في قرارات السادات الصادمة، وأعتقد يقيناً أنهم لم ينسوا إهانته الكبرى لهم وخططوا لذلك جيداً باختراق العرض العسكري عن طريق بقايا عناصر قديمة كانت «محسوبة» عليهم. وهذا يأتي بنا إلى المشهد الروسي اليوم في الشرق الأوسط وتحديداً في سوريا وليبيا. يقود المشهد السياسي الروسي فلاديمير بوتين ابن المؤسسة الاستخباراتية السوفياتية والتي كانت تدير السياسة والعلاقة مع الحلفاء في الشرق الأوسط، وهو رجل «براغماتي» وليس «عقائدياً» يبحث عن المصالح المادية لروسيا. تدخل عسكرياً بجنوده وعتاده في سوريا عندما استشعر بالغدر الإيراني ضده بعد توقيعها للاتفاق النووي مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية من دون علمه، فأراد أن يكون هو المسيطر على الأرض في سوريا (وليس داعماً للنظام فقط)، بانتظار التوقيت المناسب لفرض شروط صفقة مهمة. وبدأ مسلسل قص أذناب إيران في سوريا وفرض «الإتاوات» المالية على النظام ورموزه مقابل حمايته، وأثر ذلك على مخزون العملة الصعبة في سوريا (ولبنان أيضاً)؛ حيث كانت المسحوبات لروسيا تمتص معظم السيولة الدولارية في البلدين، ما زلزل وضع كبار الواجهات الاقتصادية المحسوبة على النظام وأدى إلى إفلاس كثير منهم وهروب آخرين. وطبعاً كان من نتاج ذلك أيضاً «تأمين» عدم مرور غاز منافس لأوروبا عن طريق سوريا، كما كانت تخطط لذلك قطر وتركيا لتبقى روسيا هي المورد الأول للقارة العجوز. واليوم ومع الهبوط الحاد في أسعار البترول، وهو مصدر الدخل الرئيسي لروسيا أصبحت تكلفة الوجود العسكري «لحماية» بشار الأسد ونظامه بالغة التكلفة، وعليه فهي «سمحت» لرامي مخلوف المحسوب عليها بأن يطلق مجموعة من الشرائط المصورة ينتقد ويتهم فيها النظام أدت إلى مصادرة النظام لأصول مخلوف في سوريا، والتي سيتم استغلال عوائدها لسداد «الحماية الروسية» حتى يتم رسم المشهد الأخير لنظام بشار الأسد بإخراج روسي ضمن «الصفقة»، التي لن يسمح لأحد أن يشارك في مشروعات إعادة التعمير في سوريا أو أي صفقة كبرى من دون أن تمر من خلال موسكو.
في ليبيا يثير الاهتمام الموقف الروسي الغامض تجاه الجيش الوطني الليبي، الذي كان داعماً له ثم «فجأة» تغير وأصبح سلبياً. بحسّه المخابراتي يدرك بوتين أن دول حوض البحر المتوسط هي خلفية خاصة لدول حلف الأطلسي، فهي العمق الأمني لها، وإذ «سمحت» دول الحزب له في غفلة ولحظة انشغال بتأسيس قاعدة له في سوريا فلا يمكن لوجوده في هذا البحر المهم أن يحصل في ليبيا، ولذلك فهو الآن يحضر لكعكة إعادة الإعمار والنفط في ليبيا التي يريد لروسيا أن تنال نصيب الأسد منها مقابل خروجه من المشهد.
روسيا ليست لديها عقيدة سياسية تروج لها وترغب في نشرها حول العالم، ولكنها تؤمن بأهمية تقديم خدماتها مقابل ثمن لذلك.