لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

محدودية الحلول التكنوقراطية في المغرب

دعا البعض أخيراً في المغرب إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة إنقاذ أو حكومة تكنوقراطية لمواجهة المشكلات التي خلّفتها وستخلّفها جائحة «كورونا». عادةً ما يتم تشكيل حكومات وحدة وطنية حين تكون هناك أزمة سياسية عميقة أو تنافر واضح بين رؤى الفرقاء السياسيين أو خطر خارجي يهدد البلاد. قد لا يختلف الكثير على أن المغرب، مثله مثل كثير من الدول يمر بأزمة اقتصادية ستكون لها عواقب عميقة على البطالة والفقر والنسيج المقاولاتي ومناعة الاقتصاد وتنافسيته، ولكنها لا ترقى، على الأقل في الوقت الحالي، إلى أزمة سياسية تستوجب حكومة وحدة وطنية.
من جانب آخر، فإن الحل التكنوقراطي الذي يقول به البعض بقي ملازماً للخطاب السياسي حول التدبير الحكومي في المغرب منذ زمان، وحتى قبل جائحة «كورونا». وهذه أسطوانة يرددها البعض ممن يظنون أن العملَ السياسي هدرٌ للزمن في وقت تحتاج فيه البلاد إلى سرعة الإنجاز، وأن النقاش السياسي هو صخَبٌ في زمن نحتاج فيه إلى الفعل لا القول، وأن السياسة هي ذَوْدٌ عن المصلحة الخاصة عوض المصلحة العامة. التكنوقراطية هي سيف ديموقليس المسلط على رقاب الأحزاب والساسة يتم التلويح به دائماً، تارةً لتبخيس العمل السياسي وتارةً للتقليل من جاذبيته، وتارةً لوجود إيمان راسخ لدى البعض بأن مشكلات المغرب تقنية، تدبيرية قبل أن تكون سياسية.
دعونا نفكك الخطاب التكنوقراطي شيئاً ما لنرى لماذا هو أسطورة بقدر ما يتم ترديدها بقدر ما قد تصبح عند البعض حقيقة راسخة لا غبار عليها. أولاً، الخوف من السياسة هو أمر متجذر في الواقع على الأقل منذ صراعات ما بعد الاستقلال على السلطة وطبيعة النظام. السياسة كانت مرادفة في العقود الموالية للاستقلال للعمل المعارض للنظام أو العمل السري أو الانتماء لمجموعات معروفة بانخراطها في نقد حالة الاستثناء (1965 - 1977) ورفض قمع الأصوات المعارضة أو المطالِبة بالحقوق والحريات. عدم مزاولة السياسة كان (وما زال) سلوكاً له حمولة قيمية في سوق التباري على المناصب والتعيينات في المراكز الحساسة والاستراتيجية.
ولكن أسطورة الحلول التكنوقراطية تختزل التدبير العمومي في الجانب التدبيري فقط. كأن العمل العمومي هو فقط عملية تخطيط وتنفيذ وتقييم لا غير. وهو أمر ينطوي على افتراضات خاطئة يجب تفكيكها. التدبير العمومي هو عملية معقدة تعقيداً لا يمكن لأشخاص مهما كبُرت خبرتهم التقنية وتجربتهم في التدبير المقاولاتي ونجاحهم في ميدان الأعمال أن يتقنوه وينجحوا فيه. عملية التخطيط والتنفيذ والتقييم هي فقط جزء صغير من عملية معقدة تقتضي فهم النسق السياسي الاقتصادي، وما يحتاج إليه من إصلاح وتغيير، ووضع الخطط لمباشرة التغيير، ووضع السياسات والقوانين والدفاع عنها، وخلق شروط التنفيذ عبر وضع حلفاء ومساندين داخل الحكومة والبرلمان وأمام الرأي العام، ووضع خطط للتواصل والرصد والتقييم.
التكنوقراطيون الذين نجحوا، لم ينجحوا لأنهم تكنوقراط ولكن لأنهم تشبعوا بروح العمل السياسي من داخل العمل الحكومي، وكانت لهم تغطية سياسية داخل حكومات سياسية، فخططوا وعبأوا وتواصلوا ووضعوا تحالفات عريضة لإنجاح سياسات عمومية معينة. من بقوا تكنوقراطيين خالصين بقوا حبيسي نظرة تقنية ضيقة ينظرون إلى المؤسسة العمومية كأنها مقاولة تعمل بمنطق التخطيط والتنفيذ والتقييم لا غير.
من ينظرون في المغرب للتدبير العمومي كأنه عبارة عن تسيير مقاولة خاصة تقتضي تدبيراً من منطق إدارة الأعمال يختزلون الفعل العمومي في تدبير المُدخلات وتقييم المخرجات؛ بينما التدبير العمومي هو تقييم للواقع من زاوية تصور عام للمجتمع ومحاولة تغيير هذا الواقع ليقترب من النظرة التوقعية عبر قوانين وسياسات وقرارات. والتغيير يقتضي التعبئة والمرافعة والتواصل السياسي وهي كفايات لا يتقنها التكنوقراط، لأنهم لا يحتكون بصخب الواقع وتداخل مصالحه وتنافر الفاعلين فيه وتعقيداته الآيديولوجية والسياسية والاقتصادية.
السياسة تدبير للتغيير في واقع معقد، بينما العمل التكنوقراطي هو تدبير تقني لواقع يتم اختصاره في مشروع أو إنجاز أو مصنع. تدبير التغيير من أعقد الأمور التي تواجه رواد الأعمال ومن ينجحون في ذلك داخل المقاولة هم من يقتبسون من السياسة كفايات لتدبير التحول، وهذه الكفايات هي القدرة على فهم الواقع ووضع خطط لتغييره وتعبئة الفاعلين والتواصل بشأنه والتتبع والرصد. ليست السياسة التي تقتبس من نجاعة التدبير الخاص فقط، ولكن التدبير الخاص يقتبس من التدبير العمومي كفايات لا تتوفر لدى رائد الأعمال المقتنع فقط بمنطق المدخلات والمخرجات.
من يقولون بمنطق الحل التكنوقراطي في المغرب يدفعون بذلك من منطق التبسيط: تبسيط العملية السياسية واختصارها وربح الوقت. ولكن تعقيدات العملية السياسية يجب ألا تكون أمراً منبوذاً، ولكن أمر مرغوب فيه. المجتمع حسب عالم الاجتماع الأميركي تالكوت بارسونز («النظام الاجتماعي» 1951)، هو تداخل أنظمة (ثقافية واجتماعية) في منظومة معقدة تعطي استقراراً للمجتمعات. في نظري فإن المجتمعات التي تعرف استقراراً كبيراً هي التي تعرف تعقيداً كبيراً، والتعقيد هنا، هو كما بيّن ذلك الفيلسوف الفرنسي إدغار موران («العلم والوازع الأخلاقي»، 1982) هو تداخل التعقيد المنظم والتعقيد غير المنظم.
من يقولون بضرورة تبسيط العمل السياسي واختزاله في عملية تقنية لا يفهمون أن تعقيد المجتمع يحتاج لعمل تدبيري معقّد أي مقاربة سياسية. علينا، حسب الفيلسوف الإسباني دانييل إنيراريتي، «أن نطوّر ثقافة سياسية تتجاوز التبسيطات الخطابية، ثقافة تبلغ درجة من التعقيد يمكن عن طريقها ضحد الطروحات المانوية والحلول السهلة شبه السحرية». من هذا المنظور، فالتكنوقراطية هي ضرب من ضروب الشعبوية، أي تبسيط العمل السياسي في مشكلات واضحة وحلول سهلة، وهي أمور لا يريدها السياسيون، لأن لهم أجندات خفية يدافعون عنها، حسب المدافعين عن الأطروحة التكنوقراطية.
السياسة ليست في الأصل دفاعاً عن المصالح، كما يحلو للبعض قوله، أكثر منها دفاعاً عن رؤى وأفكار عن المجتمع. لا يجب إسقاط الفساد الذي ساد عند بعض السياسيين والمنتخبين على الفعل السياسي المفترض فيه أن يكون فعلاً نبيلاً يقتضي تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. فساد السياسة يقتضي إصلاح الفعل السياسي لا التلويح بالحل التكنوقراطي، الذي هو وسيلة للتبسيط تؤجل الأمور المعقدة بدل حلها.
مشكلات المغرب هي مشكلات سياسية أولاً قبل أن تكون تقنية أو تدبيرية. ضعف منظومة الحكامة هو أمر سياسي، ووصول النموذج التنموي مداه هو قضية اختيارات سياسية، وتعثر ورش الجهوية هو نقص في التدبير السياسي لتقاسم سلطة القرار بين المركز والهامش، وضعف المؤسسات التمثيلية هو حصيلة لسياسة إرادية قوَّت دور المؤسسات غير المنتخبة على حساب المؤسسات المنتخبة. هذه أمور تقتضي معالجة سياسية لا تدبيراً تكنوقراطياً. الحلول التكنوقراطية أبانت عن محدوديتها في عدة مناسبات، ولا يجب استغلال الجائحة لإعادة طرحها، لأنها هي مصدر الهدر الحقيقي للزمن السياسي، لا العكس.