خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

أشراف روما

لكل جديد مشاكله وطرائفه ولا سيما عند الانتقال من مرحلة إلى مرحلة. كذا جرى في العراق وفي كثير من البلدان العربية عند خروجها من قبضة الحكم العثماني ودخولها في عالم الانتداب والاستقلال في العشرينات والثلاثينات. وحيال انتشار الفساد الإداري والرشى مما كان ولا يزال شائعاً في أكثر دول العالم الثالث، أخذ الناس في العراق يطلقون على المسؤولين عما يجري من ذلك في اختفاء موجودات الدولة أو الواردات أو أموال الجمهور فيقولون: أشراف روما باكوها (سرقوها).
وهذا استعمال لغوي، فما علاقة روما ببغداد أو العراق؟ ولماذا لم يفكروا في شيء أقرب؟ لماذا يبتلى أشراف روما بكل الإساءات التي تقع في بغداد، وهم أبعد ما يكون منها وأبرياء عنها براءة الذئب من دم ابن يعقوب؟
ولكن لكل قول أساس وأصل وحكاية. يعود موضوع أشراف روما إلى نشأة المسرح العراقي. جرى ذلك في أوائل الثلاثينات عندما قدموا مسرحية «يوليوس قيصر». الواقع أن هذه المسرحية بالذات هي أكثر مسرحية من مسرحيات شكسبير الكثيرة التي قدمت على المسرح العراقي، وربما العربي أيضاً في كل مكان. إنها ليست بقوة وروعة «هملت» أو «مكبث» أو «عطيل». ولكن الفرق التمثيلية العراقية تركت كل هذه الروايات العظيمة ومسكت بيوليوس قيصر لسبب مهم، وهو أنها كانت تخلو من أي دور للنساء فيها، اللهم باستثناء الدور القصير جداً لزوجة القيصر والدور الأقصر منه لزوجة بروتس. كل الأدوار الأخرى محصورة بالرجال من قواد وجنود ورجال دولة. هذا شيء ارتاح له المخرجون العراقيون في أيام الخير. السبب هو انعدام الجنس النسائي، أي الممثلات.
بيد أن النقص لم يكن مقصوراً على النساء فقط. كان هناك نقص في الممثلين أيضاً بصورة عامة. فعندما نال العراق استقلاله لم يكن هناك ممثلون محترفون أو معهد للتمثيل. فأمرت الحكومة إلى سد هذه الثغرة بأن بعثت حقي الشبلي إلى باريس لدراسة فن التمثيل، وعاد فشكل أول فرقة تمثيلية ممتهنة، ولاحظ امتناع المرأة العراقية عن الدخول في هذا الميدان الجديد فاختار مسرحيات لا تحتاج إلى أدوار نسائية. وكانت «يوليوس قيصر» في المقدمة. ولكن هذه المسرحية تتطلب أشخاصاً كثيرين، ولم يكن بين الفرقة من يقوم بكل هذه الأدوار. كان هناك دور أشراف روما الذين يقفون على المسرح دون أن يقوموا بأي شيء سوى الوقوف والاستماع إلى خطبة بروتس ثم خطبة أنطوني.
حل يوم تقديم المسرحية، فلاحظ المخرج انعدام من يقوم بدور أشراف روما. فقال لأحد مساعديه: اذهب للمقهى المجاور وآتنا بأي أشخاص تجدهم فيها مستعدين للبس الثياب الرومانية والوقوف على المسرح لبضع دقائق. وهو ما كان. عاد المساعد بشلة منهم. لبسوا الروبات الرومانية وتزينوا بزي أشراف روما. وقاموا بالفعل بما طلب منهم. صفق الجمهور لهم وشكرهم المخرج على مساعدتهم. ولكن عندما فكرت الفرقة في إعادة التمثيلية، لم يستطع مسؤول الإكسسوار أن يجد الملابس اللازمة. بحث عنها فقيل له: أشراف روما سرقوها.
يظهر أن هؤلاء المتطوعين وجدوا هذه الملابس التاريخية ظريفة وحلوة فخرجوا بها وأخذوها. وتكرر الموضوع في الأيام التالية الأخرى. وكلما بحث المخرج عن بعض لوازم المسرحية وجد أنها قد اختفت. وجاءه الجواب: أشراف روما أخذوها.
وسمع الناس بالحكاية فشاعت بينهم عبارة «أشراف روما باكوها» وراحوا يستعملون العبارة مجازياً عن كل سرقات المسؤولين واختلاسات الأموال من الخزينة العامة.