خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

دولة التنظيم العميقة

كنت في منزل صديق في القاهرة في النصف الثاني من التسعينات. الصديق ورفيقاه في السكن وأنا نشاهد فيلماً على «شو تايم». والأحداث تتجه خطوة خطوة نحو مشاهد ساخنة. نهض أحد الرفيقين ليصلي قبل أن يَبطل وضوؤه. انتهى من الصلاة وجاء راكضاً عبر الممر من غرفته إلى الصالة وهو يصيح مستفسراً عما إذا كان المشهد قد فاته.
حين حاول أن ينطقها بالعامية المصرية خرجت عبارة الاستفسار مسخاً. هذا الموقف الكوميدي، في الحقيقة، مشهد من مأساة.
في سعي جماعة «الإخوان» إلى السيطرة على قطاعات جديدة، تحتاج دوماً إلى بعض التعديلات. هذه التعديلات لا تنال أبداً من الغرض السياسي. فهو مقدس. أما المتحول، الذي يمكن المقايضة عليه، وتغييره حسب الحاجة، فهو الالتزام الديني. في حالتنا تلك، كان الالتزام الديني قد أدى الغرض في المساجد والمستوصفات والمعاهد التعليمية من مدارس ومعاهد دينية. والتبرعات لـ«الأقصى الأسير» أدت الغرض في النقابات والجامعات. وآن الأوان للجماعة في تكوينها الجديد - التحالف العثماني - لكي تمد الهيمنة على قطاعات الثقافة والفنون والإنتاج الأدبي وقطاع الإنترنت الناشئ وقتها. ولكي تمد التأثير إلى طبقات اجتماعية أعلى، ورقعة جغرافية أوسع، صارت تحتاج إلى أعضاء «مودرن».
هذه التغيرات تواكبت مع تغيرات في السلوك «العنيف» أيضاً. تحت اسم المراجعات. وكلنا نعرف مصيرها في مصر وليبيا. ونعرف كيف عاد أصحابها إلى الإرهاب مع أول فرصة سياسية. تذكّر: الغرض السياسي ثابت. والالتزام الديني متحول.
وبالفعل. تمددت دولة التنظيم العميقة في المؤسسات المدنية، الظهير البيروقراطي الاجتماعي الإعلامي للإرهاب. لا أتحدث هنا عن المؤسسات التي يمتلكونها جهاراً نهاراً. هذا موضوع آخر، بل عن المؤسسات التي يهيمن عليها الموظفون الصغار المتسللون من أعضاء تنظيم تحالف العثمانيين الواسع.
داخل مصالح العمل يشكل التنظيم تكتلاً أشبه بالطائفة لا المواطنين الأفراد. تكتل يفرض السلوك على من حوله. ويمارس كل الموبقات المهنية، بلا تأنيب ضمير. الواسطة والمحسوبية بينهم لوجه الله أو لوجه الغرض السياسي... لن يسموها «كوسة» أو انتهاكاً للقواعد. لن يسموها «ظلماً»، أو غير ذلك من الشعارات التي يستخدمونها لغرض الدعاية السياسية ونشر الاستياء. لن يبكوا على صغار الخريجين الذين نال أعضاء التنظيم أماكنهم بغير وجه حق، ومن دون جدارة.
في حقل الإعلام العربي في الغرب، الذي أعرفه، صار صغار موظفي دولة التنظيم العميقة يملكون «قوائم الضيوف». هم الذين يختارون من يظهر على الشاشات ومن لا يظهر. هم الذين يكتبون «التعريف» والتصنيف. يستضيفون عضو التنظيم فيكتبون في تعريفه على السيستم الداخلي: «محايد، موضوعي، مستقل»، مع عريضة من التزكية. ويقدمونه على الشاشة كأنه رمانة الميزان. ويكثرون من استضافته حتى يصير وجهاً مألوفاً ذا حيثية وثقل، ورأيه مرجعاً.
يصعّدونه في الخطوة التالية من الأقسام العربية إلى الأقسام الإنجليزية والفرنسية والألمانية بنفس التعريف. فيصير ممثل الرأي العام المحلي لدى الأجانب.
أما خصومهم، فمن ينجو من التجاهل التام ينال تعريفاً يجعله كأنما يتحدث باسم نظام سياسي، لكي ينزعوا عن رأيه صفة الاستقلالية. يضعونه دائماً في خانة الدفاع، ويوحون بأن لا وجود لمعارضتهم وسط الناس العاديين.
ثم يتناقلون هذه التعليمات بشكل تنظيمي، يسري بينهم كأنما منادٍ من السماء نادى فيهم أنْ يا مشتغلي التنظيم أبغضوا فلاناً، فيحاربونه في كل مكان تسللوا إليه، ناهيك بنشر الإشاعات عنه في الوسط الإعلامي كله.
إنْ ترقّى الواحد منهم إلى مستوى التعيين صار كل من تحت يده إما عضواً في التنظيم، وإما مرْضياً عنه مأموناً جانبه. مع تشكيلة وتوليفة تضمن أن تظل التقسيمات «الطائفية» والجندرية والعرقية محسوبة، لأن هذا ما يحاسبهم عليه القانون في الغرب. ومن السهل للغاية في التركيبة الجديدة لتحالف العثمانيين أن تحافظ على هذه التوازنات مع بقاء الغرض السياسي. لديك مسيحيون ودروز وشيعة وسُنة، رجال ونساء، من كل التوجهات الجنسية، متحالفون مع أنقرة، أو مع طهران. تستطيع أن تخلق عالماً موازياً تماماً، بمذيعيه، بموظفيه الإعلاميين، بمراسليه، بضيوفه، بخبرائه، بأكاديمييه، بل بمصادر أخباره أيضاً في الجمعيات غير الحكومية والمراكز الحقوقية. دورة إعلامية كاملة مكتفية ذاتياً. لو لم يخرج الرأي العام بانطباع سوى أن الجميع من يمين ويسار، مؤمنين وملحدين، على اختلافاتهم، يعارضون الدول الوطنية، فكفى بها خدمةً للتنظيم.
دولة التنظيم العميقة فيها كثير مثل صاحبنا الذي صلى سريعاً ليلحق المشهد الحميم، والذي لم تسعفه مفرداته لوصفه فخلط ذهنه ولسانه لفظاً ممسوخاً. لا يكشف أفرادها إلا تناقضات بسيطة كتلك. لذلك انتشرت، وهيمنت على الجو العام داخل تلك المؤسسات. وفرضت آراءها. حتى يشعر الفرد من خارج التنظيم أن هذا هو الطبيعي.
هل سمعت عن المكارثية؟ ربما. كثير من أعضاء التنظيمات يرددون هذه العبارة في الإشارة إلى حملة قادها السيناتور جوزيف مكارثي ضد الشيوعيين المتخفين في النخبة الأميركية، عقب الحرب العالمية الثانية، أعضاء التنظيم يحبون ذكر هذه الحملة على محمل الانتقاد.
حسناً. «دولة التنظيم العميقة» من الإسلامجية واليسار تمارسها ضد معارضيها كل يوم. ليس لفترة وجيزة كما في حال المكارثية. ليس بتفويض قانوني بحيث تستطيع أن تنال وسام «المستضعف» من قِبل سلطة، بل على الدوام. ساعة بعد ساعة. يفعلون ذلك في الإعلام. يفعلونه في الشركات الخاصة إنْ تكاثروا. يفعلونها في المصالح الحكومية حتى في البلاد التي يقولون إنهم مستضعفون فيها. دولة التنظيم العميقة، لا تقل خطورة عن أجهزته المسلحة.