فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

موران والجائحة والعالم!

تأخذ الجائحة بمشهديتها السينمائية كل محلل لها إلى حقله، وتعود بكل إنسانٍ إلى ظلّه. لوهلة شعر كل فيلسوف بأن لديه ما يقوله. من أبرز من انتُظر حديثه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، وذلك لسببين؛ أولهما أن منهجه يقوم على التعقيد المركب، بمواجهة خلل التبسيط الذي يعتبره «لا وعي الغرب». منظومة التبسيط التي يعارضها: «تحاول فهم العالم عبر المركبات الدينامية والتشييدية والمعقدة واللايقينية والصدفوية والمفتوحة والمتحولة كما تقدمه أبستمولوجيا القرن التاسع عشر». بالمقابل يجترج موران نقض اليقين وفتح الاختلاف. وكتابه «المنهج» بأجزائه الأربعة يفصل نظريته في التعقيد المركب بديلة لمنظومة التبسيط التي هيمنت على نظرية المعرفة منذ ديكارت.
كل ذلك جعل موران قريباً من أزمات العالم لأنها لا تنفصل عن منهجه الطامح لتغيير أدوات فهم العالم، وهذا مفصل في كتبه ودراساته.
السبب الثاني: أن مفهوم «الأزمة» ورصد المنزلقات الممكن تعرض البشرية لها طبعت كتبه ومحاضراته الثقافية وحواراته العمومية، وهنا أضرب بمثالين اثنين قبل التطرق إلى مفهومه للجائحة.
في كتابه «إلى أين يسير العالم» (طبع في 2009) تناول «ميتافيزيقا التقدم، أزمة التلوث، ما بعد العنف»، لازمتْه حالة تصيد احتمالات الأزمة، يقول مثلاً: «إن الأزمة لا تظهر فقط عند حدوث انكسار داخل اتصال، أو عند حصول زعزعة داخل نسقٍ يبدو ثابتاً لكنها تظهر أيضاً عندما تتكاثر الاحتمالات وبالتالي التقلبات» (ص 24). أما توطئة كتابه «في الأزمة» (طبع عام 2016)، فالهدف منه البحث في «أزمة الإنسانية التي لا تكتمل إنسانيتها. ويبدو لي استخدام هذا المفهوم دقيقاً، إذ إنّ العولمة عملية قد بدأت منذ قرون مع غزو الأميركتين ثم غزو العالم على يد الغرب. لكننا شهدنا منذ التسعينات عولمة تقنية واقتصادية متسارعة، وذلك في ظل تعميم الاتصالات العالمية في كل المجالات، وهو ما خلق مصيراً مشتركاً لكل البشر الذين أصبحوا يواجهون المشكلات والمخاطر نفسها، سواءً تلك المحدقة بالمحيط الحيوي البيئي، أو انتشار الأسلحة المدمّرة، ولا سيما النووية أو الاقتصاد الذي يزداد انفلاته، أو الهيمنة الخارجة عن السيطرة للمالية العالمية... إلخ. وهنا نتحدّث عن أزمة المجتمعات التقليدية الواقعة تحت وطأة التغريب، وعن الأزمة التي يواجهها الغرب ذاته، فالغرب يقدّم إلى بقية الكوكب ما يشكّل مشكلة لديه! إذن، نحن أمام أزمة الإنسانية التي لا تكتمل إنسانيتها».
من بعد ذلك التقديم يمكن اعتبار موران من ألصق الفلاسفة بأثر وسؤال هذه الأزمة من الناحية النظرية، باعتبارها تتفاعل مع نبوءاته حول الهاوية التي تنتظر البشرية، والأزمة المنتظرة، والمنزلقات أمام سيرهم بهذا العالم، ومرجع ذلك إلى خلل منظومة التبسيط التي هيمنت على تاريخ الفلسفة الذي نحى التعقيد من التأسيس المعرفي لأسس إنتاج الحقيقة (انظر حول هذا الإشكال مبحث أبستمولوجيا التعقيد عند موران - مبحث لعلاء كاظم مسعود).
لنتوقف عند أهم ما ورد في حوار موران مع صحيفة «لوموند» ترجمة صالح محفوظي، لـ«مركز دراسات المعرفة والحضارة» يقول:
* كل الدراسات المستقبلية للقرن العشرين التي ترسم ما سيأتي انطلاقاً من معطيات الحاضر اهتزّت قيمتها، ما زلنا نتنبأ بما سيأتي سنة 2025 و2050 في حين نعجز عن فهم 2020. إن وعينا لم يستوعب الطفرات غير المتوقعة في حركة التاريخ، والحقيقة أن أهم ما يجب توقعه هو غير المتوقع، ومن هنا كانت مسلمتي الشهيرة «انتظر نفسك في غير المنتظر».
* في دول عديدة وفرنسا واحدة منها، الاستراتيجية الاقتصادية للتدفق الدائم للسلع التي استبدلت بها استراتيجية التخزين، هي التي جعلت جهازنا الصحي مفتقراً لأجهزة التوقي كالكمامات، وأدوات الاختبار والتحليل، وأجهزة التنفس وغيرها. هذا إضافة إلى التوجه الليبرالي الذي ذهب إلى سلعنة الخدمات الصحية والتقليص من الإمكانيات المتاحة للمؤسسات الاستشفائية لمواجهة الجوائح.
* تضعنا هذه الجائحة أمام أشكال متنوعة من عدم اليقين: نحن لا نعلم شيئاً عن مصدر الفيروس، سوق الحيوانات بمدينة ووهان أم مختبر مجاور، ولا علم لنا بالتحولات التي حدثت أو ستحدث على هذا الفيروس خلال انتشاره، ونحن لا نعلم متى تتراجع الجائحة وما إذا كان هذا الفيروس سيظل قاتلاً. نحن لا نعلم أيضاً إلى أي حد وبأي شكل سيضعنا الإغلاق الصحي أمام موانع وحواجز وأنواع من التقسيم والتصنيف. لا علم لنا أيضاً كيف ستكون التداعيات السياسية والاقتصادية، والوطنية والعالمية لهذه الموانع التي فرضها هذا الإغلاق.
* إنه لأمر تراجيدي أن تسيطر على حضارتنا طريقة تفكير تقسيمية اختزالية، وأن تتحكّم هذه الطريقة في القرارات السياسية والاقتصادية. لقد أدى قصور تفكيرنا إلى أخطاء في التشخيص وفي التوقع وفي اتخاذ القرار. أضيف أن هاجس المردودية عند مسؤولينا قد أدى إلى اقتصاديات مذنبة ومتهمة ومثالها وضع مؤسساتنا الاستشفائية وغياب أدوات الوقاية، من وجهة نظري إذن، القصور الواضح في طريقة تفكيرنا يضاف إليه الاندفاع الجامح نحو الربح، من العناصر المسؤولة عن كوارث لا حصر لها ومنها هذه الجائحة التي هيمنت على كل العالم منذ فبراير (شباط) 2020.
موران معادٍ للعولمة، وللتسليع، ولأثر الرأسمالية «الهمجية»، وفي مذكراته التي طبعت مؤخراً بعنوان «الذكريات تأتي لملاقاتي» في 75 صفحة كما قرأها الأستاذ هاشم صالح في هذه الجريدة ينتقد «الرأسمالية الصقيعية»، ويعني بها «همجية الحسابات الباردة، والربح والفائدة، والتقنيات التكنولوجية».
موران ذو المائة عام، عاد مع هذه الجائحة لتجديد قراءة السياسة الحضارية، وفكر هذا العالم ومستقبله، بغية درس مفهوم الأزمة، واستعاد معها سؤاله التاريخي: «إلى أين يسير العالم».