احتفل البريطانيون، منذ بضعة أيام، بذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية، أو ما يعرف بـ«في داي»، ولفتني لقاء مع بيتي ويب، البالغة من العمر 95 عاماً، التي لعبت دوراً فعالاً في فك الشيفرة خلال الحرب العالمية الثانية، وعملت في مركز «بليتشلي» الشهير في شمال إنجلترا، وكانت من أهم الأسماء التي رادفت حل ألغاز الرسائل المشفرة أو الـ«Enigma Messages».
سُئلت هذه السيدة، التي لا تزال بكامل قواها العقلية، وتعيش في منزلها، وليس في بيت العجزة، عن رأيها بحرب «كورونا» ضد البشر، والحرب العالمية، ردت: «الفرق شتان ما بين الاثنتين، لأنه خلال الحرب العالمية الثانية، كنا نعرف العدو، أما اليوم في الحرب الحالية فالعدو مجهول». ومضت بيتي تروي قصصها الشيقة خلال الحرب، سرحت في حديثها، وحملتني بحكاياتها وتفصيلها لصورة الحرب التي عاشتها، وهي في ريعان الشباب، إلى بيروت وإلى الحروب التي عايشتها.
لطالما أحببت سماع قصص المسنين الذين يعتبرون بنظري خميرة الأجيال، ومنهم نتعلم ونستفيد، لا سيما هؤلاء الذين دافعوا عن أوطانهم، وفقدوا أصدقاءهم أمام أعينهم، ولكني شعرت، ولأول مرة، بأني أشبه العجوز المتقاعدة كثيراً، ونملك قواسم مشتركة عديدة (ما عدا السن طبعاً).
في الكثير من الجلسات، أخبر من هم من المحظوظين، الذين لم يعايشوا الحرب، بالمآسي التي مرت علينا في بيروت، على مدى عدة سنوات، وخلال حروب عديدة أتذكر منها فترة أواخر الثمانينات، وأوائل التسعينات، وما بعدها، وأقارنها تماماً مثل بيتي بحرب «كورونا» على البشر، فهي محقة، لأن الحربين مختلفتان، ليس فقط لأننا في هذه الحرب نجهل العدو الذي لا نعرف عنه سوى أن اسمه «كورونا»، وآت من الصين، بل إن هناك فارقاً كبيراً، لأن الحروب التي عشتها، وعلى الرغم من قساوتها، كانت تجمع الجيران، كنا نتجمع في الملاجئ التي كانت عبارة عن أماكن تحت الأرض في مدارس هجرها العلم والتلاميذ، وكنا نلهو ونلعب ونأكل ما توفر من خبز وأجبان مبسترة، الله يعلم بسوء مكوناتها. كنا نلهو، ولم تحرمنا الحرب من سرقة لحظات جميلة وولادة حب ومغازلة في الملجأ بين جار وجارته في عمر الورود، ولا أزال أذكر ساعات الهدنة، ووقف إطلاق النار التي كنا نستغلها في الذهاب إلى المنزل، لتفقد الأضرار، والاتصال بصاحب محل الزجاج، لكي يأتي ويستبدل النوافذ التي انكسرت بسبب القذائف المدوية التي سقطت في محيط البيت فترة الليل.
واليوم أنا مثل بيتي يمكنني أن أروي الكثير من قصص الحرب التي عشت تفاصيلها، ولا تزال أصوات القذائف والقنابل تخرق سمعي وأذني.
ولكن اليوم، خلال حربنا ضد «كورونا»، الأمر يختلف، لأن هذا الوباء حرمنا من أبسط الأمور؛ حرمنا من التواصل واللهو، على الرغم من قساوة ما يجري، حرم الميت من إكرامه في جنازة تليق به، حرم الأجداد من رؤية أحفادهم، والأهم أنه انتصر على حياتنا الاجتماعية، وجعلنا نخاف من بعضنا البعض، وهذا الأمر سيرافقنا لأمد طويل بعد انتهاء الحرب، تماماً مثل الكوابيس التي ترافقني منذ صغري، والصور المحفورة في باطن ذاكرتي، فأنا أخاف من صوت الألعاب النارية؛ أخاف من صوت البكاء والصراخ، أخاف الظلمة، وأخاف من رائحة الكحول التي تستعمل في تنظيف الدهان، لأني كنت أشتمها في ملجأ كنت أنام فيه مع أهلي وجيراني، وكان مستودعاً لحفظ وتصنيع لافتات «النيون»، واليوم أدرك أن القدرة الإلهية هي التي حالت دون موتنا في ذلك المستودع، الذي كان من الممكن أن يتحول إلى آتون نار لكثرة المواد القابلة للاشتعال فيه، ولم يكن فيه إلا مدخل واحد.
«كورونا» حرب غامضة، وسنخرج منها بذكريات لا تشبه ذكرياتي مع سلسلة الحروب اللبنانية التي لم تنته.
8:2 دقيقه
TT
قواسم مشتركة بيني وبين ابنة الـ95 عاماً
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة