خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من حكميات الشعراء

مما لا نشك فيه أن غزارة الشعر العربي وحكمياته فتحتا المجال لكثير من الأمثال والأقوال الشائعة التي اقتبست من بين قلائده وفرائده. من ذلك القول الشهير: «أسدٌ علَيَّ وفي الحروب نعامة». لقد اقتبسناه في حق كثير من القواد الذين ساموا جنودهم وشعوبهم الويل ثم تخاذلوا في وجه الأعادي عندما دارت رحى الحرب. ولكن التطبيق الأمثل لهذا القول جرى على يد نظام صدام حسين. فلم يسبق لنظام أن تجبر واستأسد بحق شعبه ثم تخاذل بذلك الشكل الشائن في حرب الخليج كذلك النظام.
ولكن، والحق يقال، عرفنا تطبيقات عديدة لهذا القول في التاريخ. ولا أدلَّ على ذلك من كثرة الأنماط والأشكال التي تقمّصها ذلك المَثَل. فنحن في العراق نقول أيضاً: «ما يقدر أبويه إلا على أمي». المقصود طبعاً بالمثل هو الرجل الذي لا تظهر شجاعته وشراسته إلا على أهله وذويه. ما إن يظهر أمامه الغريب أو الأجنبي أو العدو اللدود حتى يتخاذل ويطلق ساقيه للريح. ومن هذا جاءت كثرة استشهادنا بهذا المثل، فإن وراءه تراثاً طويلاً وغنياً.
أما أصل المثل فيرجع تاريخه إلى عهد الحجاج بن يوسف الثقفي بعد أن ولاه الخليفة عبد الملك بن مروان ولاية العراق. وكانت البلاد غارقة في الثورات والاضطرابات، فبعث به الخليفة عبد الملك خصيصاً ليخمدها. وكان أن وصل وألقى خطبته الشهيرة في مسجد الكوفة، التي هدد وتوعد فيها العراقيين واستهلها بذلك البيت الشهير:

أنا بن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني

وأقام السيف بينه وبين الرعية. ولكن يظهر أن تهديداته لم تُهدئ الساحة تماماً. استمر الخوارج في عصيانهم. وكان من قوادهم في عهد الحجاج شبيب الخارجي، زوج غزالة التي ربما كانت أشدّ بأساً من زوجها. فقد قادت الجيوش وخاضت المعارك الدامية ضد الدولة. وأقسمت غزالة ذات يوم على أنها لن تنزل عن ركابها حتى تصلي ركعتين في مسجد الكوفة. فجمعت أتباعها واقتحمت المدينة بجيشها واضطرت الوالي إلى الهرب والتحصن في قصر الولاية. ودخلت غزالة المسجد وصلّت ركعتين وبرّت بقسمها.
استهجن الناس هزيمة الحجاج، لا سيما هزيمة أمام امرأة. وهو أكبر عارٍ عند أهل العراق. فانبرى شاعرهم ليسخر من الحجاج فيقول:

أسدٌ علَيَّ وفي الحروب نعامة
فتحاء، تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى
أم كان قلبك في جناح طائر؟

والفتحاء هي المخلوقة الضعيفة، ليّنة الجناح. أما النعامة فيقال إنها تدفن رأسها في الرمل وتتصور أن كل شيء في خير، والله أعلم. بيد أننا وجدنا كثيراً من أمثال النعامة في تاريخنا الحديث يفعلون مثل ذلك، مما جعل هذا القول «أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة» شائعاً بيننا طوال تاريخنا العربي المعاصر.