الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

لبنان ومدّ اليد إلى صندوق النقد

لا يلام اللبنانيون إذا شعروا بأن الضربات والمصائب تأتيهم من كل جانب. ما كانوا في حاجة إلى ضربات «كورونا» ليتأكدوا من ذلك. بل لعل الإصابات القليلة نسبياً التي حلت بهم بسبب الوباء تبقى أخف وطأة من الإصابات الأكبر، التي صارت تضرب عميقاً في بنية لبنان الاجتماعية ومتانته الاقتصادية والخلل الحاصل في عمله السياسي.
من التعليقات السهلة أن يقال إن هذا بلد سيئ الحظ. لكن المسؤولية هنا لا يمكن إلقاؤها على الحظ، مع أنه يفعل فعله في مصائب أخرى. المأساة التي بلغها الوضع اللبناني على كل صعيد، كان يمكن توقعها بأقل قدر من الحس السياسي أو العلم الاقتصادي. بلد يبذّر يميناً ويساراً، وكأن الأموال تهبط عليه من الغيوم. المثل الإنجليزي يقول: المال لا ينبت على الأشجار. لكنهم في لبنان لم يسمعوا بهذا المثل، بل لعلهم سمعوا عكسه وراحوا يطبقونه. وعندما نضبت الأموال عن الأشجار وجدوا أنفسهم في حالة انهيار كامل، على أبواب الفقر المدقع الذي أصبح يهدد أكثر من ثلثي السكان.
بلد لا يخطط لشيء، لا في السياسة ولا في الإنفاق ولا في إدارة المؤسسات العامة. وحيث يحل الموظف الحكومي، في أي موقع من مواقع المسؤولية، تحل الرشوة والفساد. سرقة المال العام حلال. والموظف الذي لا يخرج متمولاً من وظيفته، مهما كانت الوظيفة متواضعة، يصبح عرضة للسخرية من أهل الحي. أفاق اللبنانيون أخيراً على أسطوانة «استعادة الأموال المنهوبة»، مع أن الكل يعرف كيف نهبت وأين تبخرت. تراكم أخطاء وسوء معالجات كان لا بد أن يؤدي إذن إلى هذه الحال. وكان يمكن للحال أن تستمر لولا أن البلد اصطدم فجأة بقرع الدائنين على أبوابه. واكتشف أن الأموال التي استدانها لها أصحاب، وعليه أن يردّها لهم. ومثلما يحصل مع أي متعثر عن سداد ديونه، بدأ التوسل والبحث عن خطط إنقاذ للخروج من هذه الأزمة، أو على الأصح الفضيحة، التي لم يعرف لبنان مثلها في تاريخه.
ولأن العوز يولّد الخلافات، انفجرت الاتهامات بين الجميع، سياسيين ومصرفيين وخبراء ماليين. كل يلقي المسؤولية على الآخر في بلد يصعب فيه على المواطن المنكوب أن يطلع على أي حقيقة. وسائل الإعلام منصات حزبية. وأهواء السياسيين تصدح بما يطيب لأنصارهم أن يسمعوا. وبالتالي تضيع الحقيقة في خضم الجدل الذي لا يوصل إلى نتيجة. النتيجة الوحيدة أن الأزمة باقية وتحتاج إلى علاج.
لا علاج في الداخل. خزينة الدولة مفلسة. والمصارف ما عادت قادرة على تمويلها بعدما بلغ حجم الديون المترتبة على الدولة للمصارف 93 مليار دولار. وأموال المودعين صارت في مهب الريح، لا يعرفون إذا كان الحظ سيحالفهم لاستردادها، ومعظمها هو جني عمرهم.
كان لا بد إذن من البحث عن سبيل للإنقاذ من الخارج. بحثت الحكومة عن خيارات فلم تجد سوى أبغض الحلال، وهو طلب النجدة من صندوق النقد الدولي. لم يكن القرار سهلاً. لكنه كان الخيار الوحيد المتاح أمام حكومة الرئيس حسان دياب. حكومة «تتمتع» بغطاء «حزب الله» وتستطيع لهذا السبب أن تتجاوز التحفظات التي كان سيضعها الحزب لو جاء هذا الطلب من حكومة أخرى برئاسة سعد الحريري مثلاً. كان سيقال في هذه الحال إن الحكومة جعلت البلد «رهينة للإرادة الأميركية»، مثلما هي الحجة الرائجة في خطاب «حزب الله» وفي وسائل إعلامه.
مع ذلك، ورغم اعتبار الرئيس ميشال عون والحكومة أن البلد صار الآن على «السكة الصحيحة»، إلى حد أن عون وصف يوم إقرار الخطة الاقتصادية بأنه «يوم تاريخي»، رغم ذلك تواجه الخطة التي تقدمت الحكومة على أساسها بطلب المساعدة من صندوق النقد بعقبات كثيرة في الداخل كما من الخارج.
في الداخل أولاً، رفعت جمعية المصارف الصوت عالياً، معتبرة أن الحكومة تجاهلتها خلال النقاشات التي سبقت إقرار الخطة، في حين أنها أحد الأطراف الأساسية المعنية بحسن تطبيقها، خصوصاً أن الخطة تلحظ إعادة تنظيم العمل المصرفي. وقال المصرفيون إن خطة الحكومة غامضة وغير مدعمة بجدول تنفيذ دقيق لتنفيذ خطوات الإصلاح الواردة فيها.
قبل انتقاد جمعية المصارف كانت المواجهة الاستثنائية بين رئيس الحكومة حسان دياب وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وبعد اتهام دياب لحاكم المصرف المركزي بـ«الغموض المريب» المتعلق بدوره في انفلات سعر صرف الليرة وانعكاسه على تدهور القدرة الشرائية، رد سلامة بأرقام ووقائع دافع فيها عن سياسته المالية، وطالب المسؤولين بتبيان مصير الأموال التي أدانها مصرف لبنان للدولة والتي بلغت عشرات المليارات من الدولارات.
يضاف إلى ذلك الجدل السياسي الذي أطلقه دياب بشأن المسؤولية عن الانهيار الاقتصادي وارتفاع معدل الديْن العام، والذي أدى إلى ردود فعل غاضبة من الرئيس سعد الحريري وفريقه. وكل ذلك في حين البلد يحتاج إلى أعلى درجات التضامن الوطني لتجاوز أزمته الحادة الاستثنائية.
في هذا المناخ يذهب لبنان إلى صندوق النقد الدولي.
* تفكك سياسي في الداخل، لم تنفع لعلاجه عملية الاحتشاد التي دعا إليها الرئيس ميشال عون وأطلق عليها «اللقاء الوطني»، الذي قاطعته أكثر القيادات السياسية المعارضة ولم يشارك سوى رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، الذي تميز حضوره بانتقاد خطة الحكومة.
* وخلاف بين الحكومة ومصرف لبنان وسائر المؤسسات المصرفية، والذي سينعكس على قرار صندوق النقد بالمساعدة؛ نظراً لأن تعاون المصارف أساسي في عملية الإصلاح المالي. كما أن الثقة المحلية والدولية بهذا القطاع أساسية للنهوض الاقتصادي.
* وشكوك دولية في قدرة هذه الحكومة على إجراء الإصلاحات الضرورية المتعلقة، خصوصاً بخفض التضخم في القطاع العام غير المنتج، وبفرض الخصخصة في كثير من المؤسسات العامة، وعلى رأسها شركة الكهرباء.
* وحذر عربي ودولي من توفير الدعم لحكومة معروفة بقربها من «حزب الله» في ظل المناخ الدولي المتشدد تجاه نشاطات الحزب الخارجية.
* والأهم أن صندوق النقد له شروطه لتوفير المساعدات. وكما هو الحال مع الدول التي يوفر لها الصندوق الدعم الذي تحتاج إليه، وفي مقدمتها حالياً المكسيك واليونان، فهو يتعامل مع الدولة المفلسة على أنها قاصرة وعاجزة عن إدارة شؤونها، وإلا لما بلغت هذا الوضع. بالتالي تصبح مراقبة الإنفاق الداخلي من صلب دور صندوق النقد لإعادة إنعاش الدورة الاقتصادية.
خيارات أحلاها مر. لكن ما بيد لبنان حيلة.