صلاح دياب
- كاتب مصري
TT

طريق بلا نهاية

للدكتور محمد عمارة مناظرة مسجلة مع الدكتور نصر حامد أبو زيد، في أحد البرامج التلفزيونية، وهي مناظرة تقدم الكثير من الرسائل المهمة؛ وإن كان طرفاها رحلا عن عالمنا، إلا أنه يمكننا أن نستخلص من منهجهما ومنطقهما ما يساعدنا كثيراً في فهم العالم وفهم أنفسنا، خصوصاً أن المناظرة تعرضت لمسألة إعمال العقل في كل شيء، وهو فكر المعتزلة، الذي يتبناه ويدافع عنه وينطلق منه الدكتور نصر حامد أبو زيد، في مقابل المنهج النقلي لأهل السنّة الذي يتبناه الدكتور محمد عمارة.
القضية الحقيقية تكاد تتصل بما أحدثه فكر المعتزلة من ثورة في مناهج التفكير والفلسفة الإسلامية والعقيدة بشكل عام، حيث أخضعوا كل شيء للعقل، الذي أصبح من وجهة نظرهم حكماً وحاكماً لكل الأمور الفقهية والشرعية والعقائدية.
لقد أصبحنا نعرف الآن أن استخدام العقل في مقاربة قضايا حياتنا فريضة دينية، وأن التفكير هو السلاح الأهم لمواجهة ما في العالم من حقائق.
الله أنزل الأديان عبر رسل كثيرين لهداية الإنسان، ومع كل ذلك فقد أعطاه آيات من كل نوع ولون جاءت من حوله حتى يتدبرها، فتهديه إلى الحق، وهي آيات ليست قاصرة على ما جاء في القرآن الكريم أو الإنجيل أو التوراة، إنما نراها كل يوم تتكرر وتتجدد من حولنا.
قد نرى آية من آيات الله في توت عنخ آمون، حين اكتشفت مقبرته وما كانت تحتويه، إذ اتضح أن كل ما جمعه في حياته من مال ونفائس لم يأخذ منها شيئاً حين انتقل لحياة أخرى.
إذا نظرنا إلى الدورة في خلية النحل وتقسيمها في العمل، لاحظنا أنها تتكون من «الشغيلة، والملكة، والذكور»، ألا نرى في ذلك آية من آيات الله؟ دورة النحل هذه لم تأتِ تشريحياً في القرآن، وإن كانت هناك سورة باسمه. ألا نرى في دورة الزرع من الخريف إلى الربيع آية من آيات الله؟
نراها في تحول بيل غيتس، أغنى الرجال في العالم، حين أوقف كل ثروته لمعالجة الإنسان العاجز، بل تجاوز ذلك، فبذل ثروته وعلمه وكل ما أتيح له من قدرات لوقاية الإنسان قبل أن يصيبه المرض.
نرى في هذا الاستغناء، الذي يؤدي إلى تحقيق مقاصد الأديان، آية لا يمكن إنكارها.
نراها عندما تتغلب الإنسانية على الغرائز، ليُمضي مجدي يعقوب ما تبقى من عمره في علاج أطفال الفقراء والمعوزين من أمراض القلب في أعماق صعيد مصر.
الآيات موجودة حولنا تتجدد ولا تنتهي، وكل ما علينا فقط أن نمعن النظر، لكن أهم آيات الله هو العقل نفسه، الذي خلقه ليحرك به مخلوقاته من كل نوع. جاء العقل على رأس كل هذا.
في العقل توجد أشياء غريبة جداً؛ توجد الذاكرة... التواصل... الابتكار... والخيال، وهذا الأخير ليس ضمن إمكانات الذكاء الصناعي، لم يستطيعوا أن يكرروه أو ينتجوه حتى اليوم.
بنعمة العقل يكتشف الإنسان ويستشرف، فيجتهد ويطور، ومع كل ذلك ما أكثر الناس الذين أنكر عليهم استخدامهم لعقولهم؛ مثل غاليليو، الذي عندما تبين دوران الأرض حول الشمس، وليس العكس، اتهموه بالهرطقة، فاضطر لمهادنة الكنيسة إلى حين؛ بعدما اعتبرت كلامه متناقضاً مع الكتاب المقدس، ومع الرأي السائد آنذاك بأن الأرض مركز الكون.
هؤلاء الذين اجتهدوا، سواء أصابوا أو أخطأوا، كان كل ما قاموا به يقره جزء من آية الكرسي: «ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء».
كل هذا معلوم، ولكن هناك جماعة من أتباع الخليفة المتوكل، يطلبون أن نظل حبيسي تفاسير الأولين، لكي يصبح كل من استخدم عقله عرضة لأسوأ أنواع الاضطهاد. مجموعة من الناس اعتقدوا أن الطريق إلى الله له بداية، أما النهاية فقد وصلنا إليها ذات يوم، بتفاسير اعتبروها جزءاً مكملاً لقرآن الله، في حين أن الأديان جميعها جاءت لتفتح طريقاً، يتدبر من خلاله الإنسان رحابة العالم وعظمة الخالق، وهو ببساطة طريق لا نهاية له.