رمزي عز الدين رمزي
سفير مصري ومسؤول أممي سابق
TT

أزمة «كورونا» والنظام الدولي

منذ الانهيار المفاجئ لجدار برلين في عام 1989، دخل النظام الدولي في مرحلة انتقالية. وعلى مدار الثلاثين عاماً الماضية مر العالم بفترة اضطراب وتوتر وقلق، وقبل كل شيء عدم يقين بشأن المستقبل، حيث شاهدنا خلال تلك الفترة الانتقالية اتجاهات متضاربة عدة وفي آن واحد، مثل: العولمة والقومية الانعزالية، السياسات الاقتصادية الليبرالية وزيادة نفوذ وتدخل الدولة، التجارة الحرة وإقامة الحواجز الحمائية، زيادة حركة البشر عبر الحدود الدولية وظهور الحواجز للحد من تلك التدفقات، الانسياب الحر للمعلومات والتلاعبات الخبيثة بها، إضافة إلى تحقيق ثروات هائلة غير مسبوقة مقترنة بتوزيع للدخل ربما يكون من الأسوأ في التاريخ. وجاءت كل تلك التقلبات خلال تحول النظام الدولي من القطبية الثنائية إلى القطبية الأحادية إلى التفكك الراهن.
هنا يأتي السؤال المحوري: متى ستنتهي تلك العملية الانتقالية؟ وما هو النظام الدولي الذي سيتمخض عنها؟ لقد أنهت الحرب العالمية الأولى على قرن كامل من الاستقرار والتقدم الاقتصادي النسبيين. ثم استغرق الأمر ثلاثة عقود وحرباً عالمية أخرى حتى تمكن المجتمع الدولي من الاتفاق على إنشاء نظام عالمي جديد مبني على أسس رفاهية الإنسان والمساواة في السيادة بين الدول والأمن الجماعي والتعاون متعدد الأطراف الذي تجسد في ميثاق الأمم المتحدة الذي يبقى الرؤية المشتركة، التي تلبي مصالح وتطلعات البشرية جمعاء، لكن للأسف، أن هذه الرؤية لم تتحقق بالشكل المنشود حتى الآن.
إن الأمل الذي ظهر في البداية عبر تلك المرحلة الانتقالية سرعان ما استبدلت بها سياسات التخويف وعدم اليقين على المستويات المحلية والإقليمية والدولية كافة: الخوف من الاستخدام المفرط للقوة، سواء من خلال تأجيج الصراعات المزمنة أو من وطأة الإرهاب، والتهميش الاقتصادي والسياسي، والتدهور البيئي، ومؤخراً تفشي الأوبئة وانتشارها.
نحن الآن أمام وضع لا بد أن تتغير فيه الطرق المعهودة للتعامل مع الأوضاع، بمعنى أننا ربما الآن بصدد تحول في النموذج الفكري المعروف Paradigm shift والمطلوب حدوثه لبلوغ التغيير المنشود.
الأزمات التي تسفر عن مثل هذا التحول تبدأ باكتشاف جديد. أحدث فيروس «كورونا» هزة شديدة في العلاقات ليس فقط بين الأفراد بعضهم بعضاً، وإنما أيضاً بين الأفراد والحكومات، وكذلك بين الحكومات بعضها بعضاً. وعلاوة على ذلك، تسبب فيروس «كورونا» في مزيد من الطمس في الخط الفاصل بين الأمن القومي والأمن الدولي. وباختصار فقد تكشف للعالم أنه يواجه أزمة في الحوكمة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية كافة.
في حين أنه من الطبيعي أن تركز الجهود الفورية، سواء كانت الوطنية أو الدولية على مكافحة فيروس «كورونا»، فإننا في أمس الحاجة إلى نظرة أعمق وأشمل للأبعاد الحقيقية للأزمة. وهو الأمر الذي يستوجب تحديد الأسباب التي أعاقت التحقيق الكامل للنظام الدولي الذي يعكسه ميثاق الأمم المتحدة؛ وذلك حتى يمكن المضي قدماً نحو تحقيق أهداف ومقاصد الميثاق.
فكما ذكر المفكر يوفال هراري، فإن الأزمة التي نواجهها اليوم، تضعنا أمام أحد خيارين: الأول هو الخيار بين المراقبة الشمولية المتسلطة والتمكين المجتمعي، والثاني بين القومية الانعزالية والتضامن الدولي. وفي واقع الأمر أننا لسنا في حاجة إلى الاختيار، حيث إننا حسمنا أمرنا عندما اعتمدنا ميثاق الأمم المتحدة الذي بني على أساس الكرامة الإنسانية التي تتأتى من خلال تمكين المواطن داخلياً والتعاون الدولي خارجياً.
لقد ظهرت الكثير من المبادرات الدولية لمواجهة تلك الأزمة، وعلى رأسها اجتماعا مجموعة السبع الكبار ومجموعة العشرين، لكن هاتين المجموعتين تفتقدان إلى الصفة التمثيلية الشاملة، كما أنهما لا يملكان الولاية الواسعة النطاق المطلوبة. وهذا ما يستدعي التأكيد على أن الأمم المتحدة هي الجهة الوحيدة التي تتمتع بالولاية والتمثيل الواسعين الواجبين لمواجهة هذه الأزمة بشكل شامل ومتكامل.
ورغم أن المنظمة الدولية قد اتخذت مبادرات في مجالات محددة، مثل: دعوة لوقف إطلاق النار في النزاعات المسلحة كافة، وتعبئة الجهود الدولية لزيادة المساعدات الإنسانية، والدعوة إلى رفع العقوبات الاقتصادية، والتعامل مع الآثار الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن فيروس «كورونا». جميعها مبادرات تستحق التقدير والترحيب، إلا أنها لا تخاطب بشكل شامل الأسباب الأساسية التي حالت دون تحقيق رؤية ميثاق الأمم المتحدة وجوهرها والمتمثل في أمن الإنسان ورفاهيته.
فلا يمكننا تجاهل حقيقة أن الأزمة التي نواجهها حالياً لها تداعيات وخيمة على الأمن والسلم الدوليين، ليس أقلها تفاقم الصراعات الراهنة. فالخلافات داخل مجلس الأمن التي كانت سائدة ولا تزال وندرة الموارد المتاحة، من شأنها المزيد من إضعاف قدرات الأمم المتحدة للاضطلاع بدورها في صيانة السلم والأمن الدوليين، وخاصة في مجالات الوساطة، وحفظ وبناء السلام. ومن ثم، فإن أمين عام الأمم المتحدة بسلطته المعنوية وبحكم صلاحياته وفقاً لميثاق المنظمة هو أفضل من يتخذ المبادرة في هذا الشأن. فيمكن للأمين العام النظر في عقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي (عبر دائرة تلفزيونية مغلقة) على مستوى رؤساء الدول والحكومات، وربما أيضاً رؤساء المنظمات الإقليمية بهدف تقديم مقترح لخطة عمل دولية Global Plan of Action تطرح حلولاً متكاملة للتعامل، ليس فقط مع الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، وإنما أيضاً مع السياسية والأمنية للأزمة الراهنة.
وتحقيقاً لتلك الغاية؛ من المهم أن تستند الخطة إلى مفهوم: «تعزيز التضامن الدولي من خلال تعميق التعاون متعدد الأطراف»، والبناء على وتسريع إيقاع الجهود المبذولة في السابق مع تحديد الأولويات التي تشكل أسس الجهود الدولية المستقبلية، ومن ضمنها:
* المساواة – من خلال حماية الفئات الأكثر ضعفاً في مجتمعاتنا عبر تحقيق الرعاية الصحية الشاملة، والالتزام بالنسب المستهدفة المتفق عليها للمساعدات الإنمائية الدولية.
* الأمن – من خلال اتخاذ خطوات ملموسة لحل النزاعات العسكرية، مثل وقف تدفقات الأسلحة عبر الحدود، وتعزيز جهود دور الأمم المتحدة في مجالات الوساطة وحفظ وبناء السلام، ودعم نظم الحد من التسلح ومنع الانتشار.
* تعزيز دور المنظمات الدولية – من خلال الإسراع في إصلاح مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتعكس الهيكل الدولي الحالي لتوازن القوى.
* تعزيز الشفافية والمساءلة الوطنية والدولية تجاه المواطنين، ولا سيما في ملفات مكافحة الفساد.
لا يساورني شك في أن الكثيرين سيعتبرون مثل هذا المقترح طموحاً للغاية وغير عملي، وعلى الأغلب سيواجه اعتراضاً من أولئك الذين يرغبون في المحافظة على الوضع الدولي الراهن على الرغم من هشاشته، بيد أن الأزمة الحالية تتطلب رؤية ثاقبة وجسارة في التعامل. نحن الآن أمام فرصة لاتخاذ خطوة إضافية لإحراز مزيد من التقدم نحو تحقيق نظام دولي أكثر إنصافاً ومساواة وإنسانية. ألم يكن ذلك هو الهدف الرئيسي من إنشاء الأمم المتحدة بعد المآسي التي تكبدتها الإنسانية نتيجة حربين عالميتين؟
- دبلوماسي مصري ومسؤول أممي سابق