سارة ربيع
TT

ما فعلته العزلة!

يقف الإنسان مصدوماً أمام ضعفه، يعتقد طوال الوقت أنه مسيطر وقابض على زمام أموره بشدة، يدير دفة أيامه كما يشاء، إلى أن تأتي ظاهرة حتمية تضعه أمام نفسه، ويشاهد مقداره أمام تدابير الكون.
أصعب ما تفعله الحروب مواجهة عدوّ غامض، غير مرئي، تخافه وتخشاه ولا تعرف له طريقاً للخلاص. بعد ما يقرب من شهر من العزلة والحجر المنزلي، تغيرَتْ نظرتي للأشياء، التفاصيل اليومية المملّة أصبحت مطلباً وأُمنيَة، الزحام والانتظار بالطرق... انضموا إلى قائمة الفَقْد.
أقضي يومي كما لم أمارسه من قبل؛ أكتشف البيت وجدرانه، وكيف تخاذل عامل البناء في لصق ورق الحائط بدقّة، أكتشف صغيرتي من جديد، ومفاهيم أخرى أوسع عن الإنسانية والمشاركة عن بُعد.
أقع في فخ الخوف والقلق باستمرار، أطارده، كما كنتُ أطارد البعوض في غرفة صغيرتي خوفاً عليها من لدغاته القاسية. لكن تمدّ لي الإنسانية بأطرافها الخفية، كلما قرأتُ خبراً إيجابيّاً أو ارتفاع نسبة الشفاء.
أشاهد مقطعاً مصوراً لـكلبٍ يلهو بكل حرّيّة في بحيرة، أشعر بأنه أسعد مني الآن، وأن أعباءه الوقائية أقلّ مما ينبغي.
في البداية كان الأمر صادماً وصعباً؛ تغيير نمط حياتك التي اعتدتها بسهولة، إلى نمط آخر ممتلئ عن آخره بتعليمات الوقاية والحذر، أمضيتُ أول يومين في صمت إلى أن وضعتُ قوائم يومية، ما بين ساعات العمل ومكالمات الأهل والأصدقاء، ومتابعة آخر ما توصلت له الصيدلية من كميات الكحول.
مع بداية لحظات الحظر، تهدأ حركة الطريق تماماً، تختفي أصوات السيارات، في مشهد لا يتكرر إلا برحلات الخروج إلى الصحراء ومطالعة النجوم، لا يقطع صفو المشهد إلا صوت جاري الذي يخرج للشرفة كل مساء يتحدث في الهاتف، لأنصت بدقة إلى صوت الطرف الآخر!
تسألني صغيرتي كل صباح عن أصدقائها الصغار، ومتى سنخرج من المنزل، أقص عليها أفكاراً صغيرة عن فيروس نحاربه، فتجري مسرعة تحضر مقشة من المطبخ بكل حماس... ليته يختفي بالكنس يا ليلى!
في العزل، تصادق الوحدة والهدوء كما لم تفعل من قبل، تفكر أكثر وتتدبر قراراتك، وربما يغزوك الأمل لوضع بعض الخطط المستقبلية. قدرة الإنسان على المقاومة تنبع من مخزونه الإدراكي لمسؤوليته الاجتماعية والإنسانية... قدرته أن يرى بقلبه وهو يثني على إيجابية الآخرين.
كلما تدفقَتْ الإنسانية من حولك وبداخلك، مرَّتْ الأزمة أسهل.
في العَزْل، تعيد ترتيب دائرتك من جديد؛ يسقط البعض، وتقوى أربطه الآخرين، وتكتشف خبايا نفسك، تنحصر الدائرة في عدد محدود ممن يشغلون بالك، تصبح حينها حمولتك أخفّ وأنت تذهب إلى ما يرتاح له قلبك.
بالأمس، كانت تجربتي الأولى للخروج منذ موسم الأمطار العاصف، شاهدَتْ عيناي الشارع بشكلٍ جديد... تخطيط لكل خطوة، واختصار لكل المشاوير في ساعتين أو أقل، فمواجهة العالم ببخاخات الكحول أمر مربك للغاية، لكنك تتعلم مهارات جديدة؛ كأن تفتح الباب بكتفك وليس بيدك.
في كل صباح، أجدد رصيدي في التعامل مع الطبيعة بطبق صغير من الخبز للعصافير، ومقدار آخر من الطعام لقطط العقار، القطط تأكل الملوخية وتتذوق ما تبقى من طاجن البامية وتمتنُّ لتواصل الإنسان معها دون قسوة.
ربما هي المرة الأولى التي أتابع فيها ما توصل له الطب من أبحاث؛ تغمرني السعادة مع كل خبر عن لقاح، وكأنني أشجع بحماس فريقي المفضل.
في أحد مشاهد فيلم «البروفسور» إنتاج عام 2018. قال البطل: «انصتوا إليَّ... العالم يحتاج إلى أمثالكم. إن العالم يتضوَّر شوقاً لأناس من نوعكم. تقبلوا هذه المسؤولية وانطلقوا. لن يكون الأمر سهلاً على الإطلاق، ستكونون وحيدين أغلب الأحيان، ولكن عليكم أن تظلوا صامدين. أرجوكم لا تستسلموا للضحالة مثلما يفعل 98 في المائة من العالم، لأنكم حينئذ ستكونون مقصرين في حق أنفسكم والعالم. أنتم أذكياء فلا تهدروا هذه النعمة... لديكم فرصة واحدة. لا تجعلوا أي لحظة تضيع من بين أيديكم، اقبضوا على كل لحظة واغتنموها، احتفوا بكل نفس».