رجينا يوسف
صحافية لبنانية
TT

تأملات في ظلّ العزلة

لم تَعُد تستقبل زبائنها بابتسامتها المعهودة. توترها يزداد يوماً بعد يوم. وصل الوباء إلى بريطانيا وبدأ في الانتشار. فتحوّلت الأحاديث اليومية عن تقلبات الطقس المتعارف عليها إلى «تحليلات كورونية»؛ من نشأة الفيروس المستجدّ، إلى نظرية المؤامرة، واللامبالاة والاستخفاف به، وحال الهلع، وهجمة الناس على المتاجر للتموين، خوفاً من مستقبل مجهول.
آراء كثيرة لأناس من مختلف الجنسيات والطّبقات الاجتماعية في هذه القهوة الصغيرة، المتكئة على حائط إلى جانب محطة قطار في إحدى ضواحي العاصمة البريطانية لندن. أمرّ بها لشراء كوب القهوة الصباحي. مالكتها رومانية، لم تقتنع بخطورة الفيروس، ودافعت عن سياسة «مناعة القطيع» التي أعلنها رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون خطّةً لمواجهة «كورونا». تنتقد الصين ونظامها الشيوعي الديكتاتوري وسياساتها القمعية وأخبارها الكاذبة. وزبونة من آيرلندا الشمالية؛ تصبّ جام غضبها على من وصفتهم بـ«المتخلفين»، بعد هذه الهجمة الشرائية لتأمين المواد الغذائية ومواد التنظيف وغيرها... إلى شرطي بريطاني متقاعد يحلّل «كورونا»: «إنّها حرب عالمية ثالثة، اقتصادية بامتياز، بين الصين والولايات المتحدة». ويتحوّل بعدها لينتقد حكم الحزب الواحد والمنظومة الشيوعية الفاشلة... وعراقي يتحدّث عن نظرية المؤامرة الكبرى التي من خلالها يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترمب للسيطرة على العالم اقتصادياً وتشويه سمعة الصين، مستنداً إلى بعض فيديوهات نُشرت على منصات التواصل الاجتماعي تتحدث عن حرب جرثومية تُطلقها الولايات المتحدة تسببت في انتشار الوباء، رغم تأكيد العلماء أنّ الفيروس ليس مصنّعاً.
امرأة عجوز تحتسي كوباً من الشاي، تقول: لن يجبرني أحد على التزام المنزل، سأخرج ساعة أشاء. لن يكون الفيروس أشدّ ضراوة من الحرب العالمية الثانية، ولا من الجرائم التي ارتكبها الإنسان بحق أخيه الإنسان.
آراء ومشاهدات كثيرة من هنا وهناك، أسمعها كل صباح على ألسنة من أصادفهم في القهوة، تحليلات ونصائح للقضاء على العدو الجديد، لا تخلو أحياناً من السذاجة. ومشاهدات أناس في المتاجر الكبيرة يهرعون للتخزين في منازلهم قبل أن تفرض الحكومة قواعد الحجر الصحي الصارمة. أفلست الرّفوف فيها من البضائع. فكلٌ يفكر بنفسه وعائلته. وعندما تقع المصائب يتصارع البشر على رغيف خبز قد يسحبونه من فم طفل فقير لضمان بقائهم. من امتلك المال تبضّع وخزّن ليعيش، ومن لم يجد جنيهاً في جيبه سينام أطفاله على مِعدٍ خاوية.
لم أرَ بريطانيا كما رأيتها مع «كورونا». لأوّل مرّة يزول شعور الأمان داخلنا مع غضب الطبيعة، فلا أموال تنفع، ولا أسلحة تحمي، ولا تكنولوجيا تنقذ. كل ما توصّلت إليه البشرية من ابتكارات لا تنفع مع عدو خفي ينتشر بسرعة في الكرة الأرضية قاطبة.
من منّا لم يشاهد أفلام الكوارث والأوبئة، ومن منّا لم يرَ كيف يتحوّل ابن آدم إلى وحش بشري بعد أن يتملّكه الخوف، فتظهر غريزة البقاء «أنا ومن بعدي الطوفان» في دواخلنا، وحتى في أنقى النفوس. الغريزة التي تعطّل الضمير والعقل تطلق العنان لبشاعة الرّوح. هذا ما شاهدته في متاجر لندن الكبيرة، عندما دخلتها مع هجمة «كورونا»، لأوّل مرة أرى الأرفف فارغة والناس تتدافع للاستيلاء على ما استطاعت من بضائع. يصيبك وجع لا تعرف وصفه، غصة في القلب، ودمعة قد تسقط حزناً أو خوفاً، ولا أدري لماذا؟ قد يكون هذا التّطور الكبير الذي نعيشه سبباً للطمأنينة داخلنا، وللجبروت الذي جعلنا ننسى كم نحن صغار أمام فيروس خرج من قلب الطبيعة.
ونحن اللاجئين الهاربين من آلامنا وضحايا حروبنا الأهلية والدينية والعرقية، من عرب وهنود وأفغان وأفارقة، نستيقظ من غفوتنا، وبلحظة تعود ذاكرتنا لتُخرج من خزائن أرواحنا هذا الخوف الدفين داخلها. كم سهل أن تعرف عدوك. في الحروب قد تجد أماكن آمنة تختبئ بها. في الحروب يموت الفقراء ويعقد الزعماء والأسياد اتفاقات على جثثهم لحل أكبر النزاعات، واليوم، من سيفاوض «كورونا»؛ هذا العدو المنصف العادل في خطف الأرواح؛ فلا فرق لديه بين غني وفقير، وسيد وعبد، ولا يميّز بين دين وعرق؟
قد تطول أيام العزل، وقد نفقد أحباء لنا، وربما نرحل نحن، والبشرية في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع مع تسابق المختبرات حول العالم لإيجاد لقاح يوقف خطر «كورونا».
فماذا بعد عزلة «كورونا»، ومتى سيرحل عنا؟