من كان يتوقع أن «رفرفة جناح الفراشة في الصين ستتسبب في حدوث إعصار مدمر في أميركا وأوروبا والشرق الأوسط». هذه على الأقل نظرية عالم الأرصاد إدوارد لورنز التي أطلقها عام 1963. وقد رأينا ذلك بالفعل بعد أن اجتاح البشرية لأول مرة في العصر الحديث فيروس «كورونا المستجد» في حادثة غير مسبوقة. اضطرت عدة البلدان، على أثرها، إلى إغلاق حدودها، ومطاراتها، وأسواقها، ومدارسها، بل حظرت التجول وكأننا في أتون حرب عالمية. غير أننا في حرب مع جرم صغير لا يرى بالعين المجردة. فصارت البشرية بسبب فيروس «كورونا» أمام عدو واحد لأول مرة في التاريخ. هذا الفيروس انطلق من قلب الصين إلى شتى بقاع العالم. وما حدث هو صورة من صور نظرية أو «تأثير الفراشة» التي تذهب إلى أن «الأحداث الصغيرة قد تُحدِث تداعيات كبيرة».
ورغم أن هذه النظرية توجد في أدبيات الأرصاد الجوية بكثرة فإنها قد دخلت في مجالات عدة كالرياضيات، والفيزياء، والاقتصاد وكذلك في إدارة الأزمات. وما هذا الفيروس إلا أبلغ مثال على «تأثير الفراشة». فالصين التي كانت تتهم بتصدير مليارات المنتجات المقلدة، ها هي تصدر للعالم العدد نفسه لكن من الفيروسات التي اقتحمت كل القارات، حتى صار يموت في اليوم الواحد في أوروبا مئات الأرواح كما في إيطاليا وإسبانيا بسبب ذلك الفيروس الذي ينقض على أجهزتنا التنفسية.
ورأينا تأثير الفراشة أيضاً في ردود الفعل، فما أن تقرر بلد ما إصدار قرار جريء حتى تجد أصداء ذلك في البلدان الأخرى. كما أن إشاعة صغيرة هنا تحدث جلبة هائلة هناك. وكذلك الحال مع الأفكار الخلاقة في التصدي لفيروس العصر التي تلقى تفاعلاً في أقاصي المعمورة.
ونتعلم مما جرى أن حدثاً هامشياً (رفرفة الفراشة) أو حفل عشاء أو زفافاً قد يرفع عدد الضحايا إلى المئات مثل تلك الكورية التي أصابت أكثر من 200 شخص بإصرارها على مخالطة الجميع رغم إصابتها بالمرض، ومثل رجل الأعمال الإيراني الذي تفشى بسببه المرض في بلاده. ورأينا المصابين ممن هربوا من المستشفى لتتبعهم الشرطة والطواقم الطبية خشية من تأثيرهم على العالم. فصارت الكرة الأرضية بالفعل تحت رحمة تأثير «لعبة الدومينوز» ما أن تسقط قطعة حتى تتبعها سائر القطع بالسقوط تباعاً، في مشهد تهاوت فيه أشهر الأنظمة الطبية في أوروبا. فألمانيا التي كانت بالأمس تحاول علاج فرنسيين (ممن لم تعد تستوعبهم مستشفياتهم) ارتفعت فيها نسبة الإصابة بصورة مذهلة وعزلت مستشارتها الألمانية خشية إصابتها بالفيروس بعد لحظات مخالطة مع طبيبها المصاب.
ما يهمنا في هذه المرحلة أن تحدث الفراشة تأثيراً إيجابياً يدفع العالم إلى نظام جديد، يطور فيه الإنسان تعليمه، وعمله عن بعد، ويرمم كل ما تصدع من تلك الصروح الهشة كالأنظمة الصحية التي تهاوت عند أول مواجهة مع وليد جديد من عائلة كورونا الفيروسية. حدث ذلك رغم تحذيرات العلماء والمفكرين ومنهم الملياردير بيل غيتس الذي ذكرت قصة تنبؤه عام 2015 باجتياح فيروس وشيك للعالم، وذلك في مقال لي بعنوان «الاستعداد لغير المتوقع».
هناك بلدان تخرج من أزماتها أقوى من ذي قبل، وهناك من لا يتعظ من دروسه مهما كانت أليمة. وهذا أحد أسباب بقائها في مؤخرة ركب التقدم.
TT
«تأثير الفراشة» في الأزمات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة