د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

إسقاطات جنازة مبارك

وداع بطل حرب أكتوبر (تشرين الأول) الرئيس المصري حسني مبارك، بجنازة رسمية، يؤكد حالة الوفاء لدى الجيش والشعب المصري، لمن كان محارباً من أجل وطنه، ولو اختلف البعض معه سياسياً. فما تم هو احترام رمز وطني قدم لبلاده الكثير، وفضل التنحي عن السلطة عندما طلب منه الشعب التنحي وقرر البقاء في بلاده، وهو الذي كان في استطاعته أن يغادر وطنه، ولكنه واجه محاكمة نصبها له نظام «الإخوان» الذي حكم عليه مسبقاً رغم براءته. فالقيادي الإخواني البلتاجي الذي أخذته العزة بالإثم زمن حكم مرسي العياط باسم «الإخوان» في مصر، رد على عمرو موسى الذي طلب الرفق بمبارك وإخراجه من السجن، إذ قال الإخواني البلتاجي: «مبارك سيموت في السجن»؛ فكانت مشيئة الله أن يعيش مبارك عزيزاً خارج السجن، بينما يموت مرسي العياط رئيس البلتاجي في السجن مداناً بتهمة الخيانة العظمي، ليصدق قول الله: «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَي أَرْضٍ تَمُوتُ»، ويكذب البلتاجي وهو الكذوب.
جنازة مبارك كانت جنازة عسكرية من مسجد المشير طنطاوي، نظر إليها بعض الإعلاميين المصريين على أنها أنهت حقبة 25 يناير (كانون الثاني)، رغم غياب المشير عن الجنازة بسبب مرضه.
مبارك ودع جسده الممدد على عربة مدفع وطلقات المدفعية بحضور الرئيس السيسي وكبار رجال الدولة والجيش، بعد أن نعت القيادة العامة للجيش المصري مبارك بالقول: «ابناً من أبنائها وقائداً من قادة حرب أكتوبر المجيدة الرئيس الأسبق لجمهورية مصر العربية محمد حسني مبارك». وبسبب تبرئة مبارك من تهمة الاستيلاء على مخصصات القصور الرئاسية، جرى الاحتفاظ بالنياشين والأوسمة العسكرية.
وعن جنازة مبارك قال عنها البعض: «رحل أول رئيس مصري يحمل لقب رئيس سابق»؛ في إشارة إلى أن الرجل فضل البقاء في وطنه عن الهروب ناجياً بنفسه من انتقام خصومه خاصة تنظيم «الإخوان»، فهو القائل في خطاب التنحي: «سيذكر التاريخ ما لنا وما علينا... إن الوطن باقٍ والأشخاص زائلون... فيه عشت، وحاربت من أجله، ودافعت عن أرضه وسيادته ومصالحه، وعلى أرضه أموت»، وفعلاً رحل مبارك وهو على أرض وطنه.
وفي إسقاط درامي آخر لجنازة مبارك، الذي أسقطته هوجة الربيع العربي، هناك رئيس آخر ينتظر جنازة تليق به كرئيس سابق لبلاده، له ما له وعليه ما عليه، ولكنه أثبت أنه وطني وإن كان ديكتاتوراً وطاغية؛ إنه القذافي. فبغض النظر عن الموقف منه لدى البعض، ولكنه يستحق جنازة رسمية، وأن يدفن بمقبرة معلومة تليق برئيس ليبي سابق... فالرجل لم تثبت ضده تهمة الخيانة العظمى لتسلبه حق التكريم في أبسط صوره وهو الدفن، فلا يزال قبر القذافي مجهولاً بعد أن تعرض جثمانه للتمثيل والتشفي، وعرضه بعد قتله في ظروف لا تزال تفاصيلها غامضة، حيث عُرِض جثمان القذافي في ثلاجة للحوم للفرجة والتشفي، في مشهد لا يمكن القبول به شرعاً أو قانوناً.
فالقذافي هو الآخر رفض الخروج، ورفض عروض اللجوء للخارج، وفضل الموت في بلاده، وإن كان بطريقته، كما أخبر عنه جاكوب زومبا رئيس جنوب أفريقيا، عندما أعلن القذافي التصدي لحرب الناتو.
أيضاً الارئيس الفرنسي شيراك أجريت له بعد رحيله جنازة رسمية رغم إدانته في قضايا فساد مالي، فالشعوب الحية تنظر للجزء الملآن من الكوب، طالما الراحل لم يدن في قضية خيانة وطنية، التي حينها يسقط حقه في جنازة رسمية، كما حدث لمرسي العياط الذي مات مداناً بالتخابر مع دولة أجنبية.
فاحترام الرموز الوطنية وتقدير مجهودهم الإيجابي، وإن تم الاختلاف معهم سياسياً، يعكسان مدى ثقافة التسامح ودرجاته بين الشعوب، وجنازة مبارك نموذج للتسامح وطي صفحة الماضي.