سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

العودة إلى القمقم

المزاج الشعبي يميل إلى العزلة. بإمكان الحكومات أن توقف الرحلات الجوية، تغلق الحدود، من دون أن تجد من يعارضها. بل على العكس، ثمة فرنسيون يطالبون بإقفال حدودهم مع إيطاليا، وغاضبون من الحكومة لأنها تنتظر رأي الاتحاد الأوروبي. لا مانع أيضاً من إلغاء عشرات الكرنفالات التي في عز موسمها هذه الأيام، والتخلي عن المواعيد الرياضية. كل ما يحدّ من «كورونا» مرحب به، بعدما تبيَّن أنه ينتشر بمجرد وصوله إلى بلد كالنار في الهشيم.
ما لا يُقال صراحة أن إرباكاً كبيراً تعيشه الحكومات، وكذلك الكوادر الطبية. الغموض كبير حول طبيعة الفيروس الذي تحول فجأة، وبات يصيب الإنسان. الأخطاء مفجعة حتى في بلدان متطورة. نموذج السفينة السياحية «أميرة الألماس» الموبوءة التي حُجِر عليها قبالة السواحل اليابانية دالٌّ، وأثار انتقادات واسعة. أصيب 500 شخص على متنها في فترة الحجر في حين كان الركاب حبيسي غرفهم، والفيروس لا ينتقل بغير الرذاذ. يقال إن نظام التكييف هو السبب لعدم وجود فلاتر للتنقية، فهل ينتقل الفيروس في الهواء؟ طبيب يرى أن تجوال الأوراق التي كان يعبئها الركاب، وعدم جمع المعلومات شفهياً، نقل الفيروس. تساؤلات أخرى في فرنسا عن وفاة دراماتيكية لأستاذ لم يذهب إلى بلد موبوء ولم يختلط بمرضى. هذه حالة لا تزال تثير الحيرة. ومما لا يتناقل كثيراً، أن الصينيين يعتقدون أن البراز قد يكون سبباً في العدوى أيضاً. وهناك يابانية شُفيت وغادرت المستشفى لتعود إليها الأعراض مرة أخرى.
وكما ترى، فالأمر لم يستقر، والهلع يتزايد، والعلاجات الجذرية كما اللقاحات معدومة، والتشخيص صعب، بحيث لا بد من إعادة الاختبار لأكثر من مرة وانتظار ساعات طويلة قبل معرفة النتيجة، وهي ليست بالضرورة أكيدة. والأعراض قد تكون صامتة بالكامل أو قاتلة وفتّاكة. وكله مع «كورونا» المراوغ جائز، حتى إعادة ابتكار الفيروس لنفسه، وتحوله في أي لحظة، إلى نوع جديد، وهو ما يتوقعه العلماء.
وسط هذه المعمعة، تستيقظ شهوة المال، وغرائز جني المكاسب، وتوظف السياسة في عمق الصحة، وينادي الحمائيون باستخلاص العبر، والتيقن من أن عولمة الصناعة لم تعد تجدي، وأنها أضعف من أن تقاوم فيروساً صغيراً. ويحتفي وزير التجارة الأميركي ويلبر روس باقتراب عودة الصناعات والوظائف إلى أميركا. أعداء العولمة في عيد هذه الأيام. البيئيون يحسبون انخفاض التلوث في الصين، الدولة الأكثر بثاً للسموم بنسبة 25 في المائة، وانخفاض الطيران بأكثر من النصف. ولا يعبأ هؤلاء بأن الأرباح ستتهاوى، فهم ينظرون إليها على أنها تضخمت بطريقة مصطنعة، بعد أن صارت السيارة الواحدة، تصنع قطعها في ثلاثين دولة بحثاً عن التوفير واليد العاملة الرخيصة، ويضحّى بمستقبل الكوكب في نقليات تجوب البحار ليل نهار. أعداء السياحة الذين يرون فيها تدميراً للبيئة من أناس عابرين لا يراعون حرمة الأمكنة، يدعون أيضاً إلى إيجاد بدائل لمداخيل مدن وهبت نفسها لعبث الزوار مثل البندقية ولومباردي، اللتين تخسران يومياً ثمانين مليون يورو، بعد أن هجرهما السياح.
المدن الموبوءة، كما ووهان، باتت مهجورة إلا من القطط والكلاب الشاردة، وأهلها سجناء منازلهم منذ ما يقارب الشهر، كما مدن مصابة أخرى، يصفها المتجولون الندرة فيها، بأنها شبيهة بما يرونه في أفلام الخيال العلمي.
تقتل الإنفلونزا الاعتيادية، بصمت مطبق، ما يفوق نصف المليون شخص في أوروبا سنوياً، وهذا ليس بقليل. و«كورونا» نسب وفياته لا تشبه وباء «سارس» المدمر، مع ذلك يتسبب المرض الجديد؛ لأنه لا يزال غامضاً ومخاتلاً، وغير مفهوم المسار، في رعب كفيل بحثّ المستثمرين على إعادة التموضع. ولا يستبعد أن يكون ما بعد «كورونا» مختلفاً. فمن يعتقد أن إيطاليا أو فرنسا أو حتى ألمانيا، لا تهاب المرض وتخور قواها أمامه، وهي في هذا الموسم مشغولة مستشفياتها حتى الاختناق، بأمراض الشتاء التقليدية، يكون قد أساء التقدير. «منظمة الصحة العالمية» نفسها هلعة، وتصاريحها تخيف وليست قاطعة، فما بالك بصغار المواطنين المتفرجين، والمعلومات يتلعثم بها وزراء الصحة لأنهم في بعض الأحيان لا يجدون إجابة، ولا يريدون الاعتراف بذلك.
بالطبع «كورونا»، ليس «الطاعون»، وخطورته تبقى منخفضة على الشبان وأصحاء البدن، لكنه كفيل بعد تجربة اقتصادية قاسية، وخسائر فادحة، وعولمة أخباره وانتشار كاذبها قبل الحقيقي منها، وما ينتج منه من أساطير وحكايات، ويركب عليه من قصص أن يشكل تحولاً، قد لا يكون جذرياً، لكن يحسب له حساب.
ومع أن العالم يراد أن يقال عنه قرية كونية صغيرة غير أنه في الواقع، قرى كثيرة الهوة بينها تتفاقم، وكل يركّب على «كورونا» مشاكله، ويحيطه بعقده، ويضفي عليه من أوهامه وتمنياته، حتى لنكاد نقول إن لكل بلد «كوروناه» الخاصة. ففي أوروبا صار وسيلة لتوجيه السهام لفكرة الاتحاد، وفي أميركا ذريعة للقول إن الصين بلد الأوبئة لتطفيش المستثمرين، وفي إيطاليا أداة المعارضة لمهاجمة الحكومة. وفي كل الكوكب فرصة «المتشائمين» الأبديين للقول إن نهاية العالم قد اقتربت. وبينما يعبر الوباء وينقضي، ستكشف النفوس عن طوايا كثيرة لم نكن نعرفها، وجهل عميم كنا بغنى عن اختباره، وحقد لا يقاس عفتنا السماء من شره.