مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

هل لنا علاقة بالحداثة؟

عادَ الجدلُ حول الحداثة والتراث في مؤتمر الأزهر الذي أقيم بالقاهرة الأسبوع الماضي، وأقحم من لا يعرفون أنفسهم في جدل متخصص لا يعرفون تاريخه أو أبعاده، وتلك كارثة عندما يتناول العوام عن جهل موضوعات شديدة التعقيد.
ورأينا ذلك في جدلية الحداثة والتراث في المجتمع السعودي في ثمانينات القرن الماضي عندما أصبح حديث «الحداثة» و«التراث» مادة أشرطة الكاسيت لعوض القرني وكتب صغيرة غير محكمة مثل «الحداثة في ميزان الإسلام»... وغير ذلك من العناوين التي تبشر بجهل لا بعلم. وما يجري في مصر الآن لا يختلف كثيراً عمّا جرى بالسعودية منذ نحو أربعين عاماً.
ولكي نضعَ حديث شيخ الأزهر إلى رئيس جامعة القاهرة في نصابه، فعلينا أن نطرح سؤالاً بديهياً: ما علاقتنا بالحداثة؟ وبالحداثة أعني تلك الحالة الثقافية الغربية الناتجة عن الثورة الصناعية وما تبعها من تغير في المفاهيم العلمية؛ من نظرية آينشتاين و«النسبية» في الفيزياء وتأثيرها على مفهوم «الحقيقة»، إلى «الكوانتم ميكانكس» التي تقول بغياب الملاحظة الموضوعية إلا في حالة غياب المشاهد، والتي أسست لـ«ما بعد الحداثة» فيما بعد... ومن تراث فرويد ويونغ في علم النفس وتأثيرهما على المفهوم الغربي لـ«الحقيقة»، وكذلك التجليات الثقافية التي نعرفها في أدب مارسيل بروست في فرنسا، وتي.إس. إليوت، وفي فرجينيا وولف في بريطانيا، إلى كتابة فوكنر في أميركا، خصوصاً في روايته الشهيرة «الصخب بالعنف»، هذا ما يسمى «modernity»، و«الحداثة» تختلف جذرياً عن «التحديث» (modernisation)، فكلاهما «مفهوم» بعيد كل البعد عن الآخر، فـ«التحديث» مفهوم مرتبط بدراسات التنمية ويخصّ بناء الدولة وتطور المجتمعات البشرية، وأهم مثال على الكتب المؤسسة لهذا العلم؛ أقصد «التحديث»، أعمال جبرائيل ألموند، وسيدني فيربا... وآخرين. و«التحديث» أيضاً يختلف عن «العصرنة» أو «المعاصرة» (contemporary)، والمهم قبل أن ندلف إلى علاقتنا بـ«الحداثة» هو أن ندرك أن «الحداثة» نمط إنتاج فكري وثقافي، جاءت نتيجة لتحولات في العالم المادي في عصر الصناعة. أما «عالم ما بعد الصناعة» فجاءت تجلياته فيما عرف اصطلاحاً بـ«ما بعد الحداثة» (postmodernism)، وهذه مرحلة أخرى في حركة الإنتاج والعلوم المصاحبة، التي أنتجت تجليات ثقافية في معارف وعلوم مختلفة ومدارس تفكير مختلفة في رؤية «الحقيقة» ومنهجية التحليل والتفسير والتأويل من هيرمونيطيقا أُمبرتو إكو في إيطاليا، إلى تفكيك داريدا وفوكو في فرنسا، وهذه المناهج أثرت على تناولنا العلوم الإنسانية من الأنثروبولوجيا إلى علم الاجتماع وعلوم السياسة وأيضاً اللاهوت. هذه بداية تلغرافية للتأصيل العلمي لـ«الحداثة» و«ما بعدها».
فترى ما علاقتنا بالثورة الصناعية التي أنتجت «الحداثة» وما علاقتنا بعالم «السوفت وير» المنتج لـ«ما بعد الحداثة»؟ فنحن ننتسب إلى «الحداثة» و«ما بعدها» بالجوار الجغرافي ليس إلا، ولكن مجتمعاتنا ما زالت إنتاجياً تقف عند «ما قبل الحداثة».
فما علاقة هذا التأصيل بحوار الإمام الأكبر مع رئيس جامعة القاهرة الذي أثار جدلاً في مصر؟
أولاً كان حديث الدكتور الخشت شديد الاحترام لمؤسسة الأزهر، ولكن ما كان ينقصه هو الصرامة العلمية، وتلك كانت نقطة الإمام الذي أكد أن الحديث العلمي يجب ألا يكون أسير تداعيات الأفكار اللحظية. وأتفق مع فضيلته في هذه النقطة.
أولاً مسألة الحديث عن التراث فيما يخص سؤال القطيعة أو الاستمرارية والتراكم، ليست حديثاً عربياً متفرداً؛ فقد تم تناولها بصرامة أكثر في حضارات وثقافات أخرى بمنهجيات مختلفة.
على سبيل المثال؛ كان هناك حوار في بريطانيا في بدايات القرن العشرين بين فيرجينا وولف وتي.إس. إليوت حول مسألة القطيعة مع التراث، وفيه قالت وولف لإليوت إنه يرى أبعد من شكسبير، فجاء رد إليوت «أنني أرى أبعد منه لأنني أقف على كتفيه». وذلك ما سماه إسحاق نيوتن في النصف الثاني من القرن السابع عشر «الوقوف على أكتاف العمالقة».
التراث هو ذلك الذي نعرفه، أما مسألة تأويله، فتلك تختلف باختلاف المنهجية، فمن جاء من مدرسة التفكيك مثلاً، مثل المفكر محمد عابد الجابري في «سلسلة العقل العربي» و«نقد العقل العربي»، يعيد ترتيب التراث، مستلهماً منهجية ميشال فوكو. وساعدتنا هذه المنهجية في كشف جانب مظلم من التراث، ولكن أساس العلم هو التراكم لا القطيعة. وهذا التراكم هو الذي ساعد الغرب في الوصول إلى ما هو عليه الآن.
بالطبع هناك مراحل انتقال في المنهجية وطرق التفكير تؤدي إليها اكتشافات مثل نظرية «النسبية» أو «الكوانتم» فيما يعرف بـ«paradigm shift» ما نتج عنه تغيير في الرؤية أو نمط التفكير، وهذا ما أصّل له كارل بوبر ومن بعده توماس كون في كتابه «بنية الثورة العلمية». وكل هذا تراكم معرفي لا أعتقد أننا طرف فيه.
كما ذكرت في البداية كانت معركة الحداثة في العالم العربي؛ السعودية تحديداً، في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. وكان الحديث كله عن الحداثة في الشعر وعلاقته بالدِين... وحرب مع مجموعة من الشعراء العرب مثل أدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي... ولا أعتقد أن ما قال به أدونيس بالحداثة في شعر المتنبي له علاقة بالحداثة كمنظومة معرفية، بقدر ما هو إشارة إلى لغة المتنبي. «الحداثة» التي كان يتحدث عنها أدونيس فيها معاني تجديد في شكل القصيدة، ولا يمكن أن يطلق عليه لفظ «الحداثة» (modernity) بمعناها المتعارف عليه في الثقافة الغربية، فلفظ «الحداثة» في سياقها الغربي أمر محدد الملامح ومعلوم للمختصين... هي أمر يخص الغرب لا الشرق.
إن حوار مقابلة «الحداثة» بـ«التراث» عندنا أمر فيه جهل شديد بالحداثة، ويمكن أن تطلق عليه أسماء أخرى، مثل «التجديد» أو «المعاصرة»... أو غير ذلك من ألفاظ لا تكون «الحداثة» جزءاً منها.
«الحداثة» و«ما بعد الحداثة» تجليات لأنماط إنتاج ظهرت في الغرب، وهذه الأنماط لم تظهر بشكل طبيعي لدينا، لذا فلا تجليات لها عندنا.
إن حديث الدكتور الخشت في مؤتمر الأزهر حديث جيد، ولكن تنقصه الصرامة العلمية، وينقصه تأصيل لمنهجية القطيعة والاستمرار في العلاقة بالتراث؛ أي تراث، وكيف تناولته الثقافات الأخرى. وظني أن الإمام عندما تحدث عن مثَل ترميم البيت أو بناء بيت جديد، كان يشير إلى تلك النقطة المعقدة في تاريخ حوار القطيعة والاستمرار (break vs continuity).
أتمنى أن نناقش قضايانا بمنهجية من داخل ثقافتنا، ولا نجنح إلى تلقف كل ما هو جديد في المنهجية الغربية. نعم طوّر الغرب العلوم الإنسانية بشكل يدعو إلى الدهشة، ولكن ليست كل هذه المنهجيات تصلح لتطبيقها على تراثنا، ليس لأنه معقد أو ما شابه، ولكن لأن ذلك يحتاج إلى معرفة بدقائق هذا التراث كمعرفة إليوت بشكسبير. فكان واضحاً من الحوار أن الإلمام بالمذاهب الفكرية عند الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرها حديث منقوص. ليس عيباً أن يترك الحديث للمختصين في علوم الدين؛ وليس في هذا كهنوت. في الغرب جاءت منهجيات كثيرة مثل الهيرمونيطيقا (hermeneutics) من مدارس اللاهوت، وكانت كليات اللاهوت من أكثر المدارس صرامة؛ خصوصاً في علوم اللغة.
وأخيراً، فالخطاب الديني الذي نريد تجديده محدد بثقافتنا ومفاتيحنا المعرفية، فالتجديد في عصور الانحطاط غالباً ما يأتي بتجديد يعكس الحالة الثقافية للمجتمع، وما نحن فيه الآن من لحظة اضمحلال معرفي سيؤدي إلى تجديد يشبهنا، فالخطاب المتخلف في فهم الدين في بلد كمصر لا يخصّ المسلمين وحدهم، فخطاب المسيحيين في مصر أيضاً لا يختلف عن الخطاب الإسلامي، فكلاهما تجليات لمجتمع أقرب إلى التخلف منه إلى روح العصر.
إن بداية تحديث الخطاب تبدأ من تحديث المجتمع. تحديث التخلف ينتج قيماً جديدة من خلالها نستطيع النظر إلى التراث بعيونٍ؛ لا أقول صافية تماماً، وإنما خالية من التلوث. تجديد الخطاب الديني، وأي خطاب آخر، يبدأ بتجديد بنية المجتمع؛ إذ لا علاقة لمجتمعات لا تحترم إشارات المرور بتجديد أي شيء وآخرها الخطاب الديني. وبالخطاب أعني المعنى الواسع (discourse)؛ سواء أكان دينياً أم غير ديني؛ هو عرض لمرض أو تجليات لبنى اجتماعية أعمق.. تحديث هذه البنى التحتية سيؤدي بالقطع إلى تحديث الخطاب كله وليس الديني فقط. والله من وراء القصد.