نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

البيئة: سياسات عامة أم عمل شخصي؟

«البيئة الأفضل تبدأ بك أنت»، شعار حملة توعية إعلامية تم إطلاقها قبل سنوات، بهدف الحث على العمل الشخصي لحماية البيئة. وقد شاركت فيها شخصيات عامة معروفة لإيصال الفكرة إلى الجمهور، من كاتب كبير يكتب على جهتَي الورقة، إلى فنّان شهير يوفّر في استهلاك المياه والكهرباء عن طريق تركيب معدات خاصة في منزله، إلى لاعب كرة قدم ينتقل إلى الملعب مشياً على قدميه لتجنُّب صدور انبعاثات ضارة من سيارته. أطلقَت الحملة قدراً كبيراً من الوعي بمشاكل بيئية خطرة، لكننا بدأنا نكتشف، مع الوقت، أن العمل الشخصي وحده لا يكفي. فالتغيير الكبير لا يحصل إلاّ عبر سياسات عامة يتم إلزام الجميع بتطبيقها.
أذكر أنني كنت أتحدث مرة إلى مجموعة من التلاميذ بدعوة من إحدى المدارس، فاستخدمت محرمة ورقية، ووضعتها متسخة في جيبي، بهدف إيصال رسالة مباشرة: إذا لم تجد بقربك سلة مهملات، ضع النفايات في جيبك بدل رميها على الطريق. لكن أحد الأولاد الحاضرين، ولم يكن عمره يتجاوز 12 سنة، علّق بالقول: «لو فعل كل أفراد الشعب هكذا، فاحتفظوا بالنفايات لرميها في المستوعب المخصص لها، ثم جمعها عمال التنظيفات في شاحنات كبيرة، تمهيداً لرميها في مكبات عشوائية على الشاطئ، فما الفائدة؟» علّمني تعليق هذا الولد الصغير درساً عظيماً، هو أن الوعي الشخصي يكتسب أهمية ويساهم في تحقيق التغيير، فقط حين يضغط الأفراد الواعون بيئياً على المسؤولين لاعتماد سياسات عامة صالحة. وهذا بالتحديد ما تفعله الحركة الشبابية التي أطلقتها الناشطة غريتا تونبرغ انطلاقاً من إضراب فردي أمام مدرستها في السويد، لتتحول إلى مبادرة عالمية تضغط على الزعماء، وصولاً إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
المبادرات التي يقوم بها متطوّعون، لجمع النفايات وتنظيف الشواطئ أو غرس الأشجار، هي أعمال جليلة ومشكورة، تعبّر عن حسّ اجتماعي مرهف. لكن النفايات لا تلبث أن تعود بعد أيام، في انتظار حملة تنظيف ثانية. والأشجار لا تلبث أن تذبل وتموت في غياب الرعاية المستمرة، التي هي من مهمات المؤسسات العامة لا المتطوعين. عدا عن أن مشاركة مسؤولين حكوميين في حملات تطوعية، تحت عدسات الكاميرا، لغرس شجرة في ساحة هنا أو التقاط زجاجة فارغة على شاطئ هناك، لا تعفيهم من مهمتهم الأساسية في التشريع وفرض تطبيق القوانين.
انتشار النفايات في الطبيعة والأماكن العامة ناتج من ثلاثة مصادر رئيسية: المكبات العشوائية التي تقيمها البلديات، وفضلات مصانع صغيرة وكبيرة، ناهيك عما يرميه الأفراد أثناء نزهة على شاطئ أو رحلة عبر الجبال. الحل في قوانين لتقليل كمية النفايات ومعالجتها من خلال برامج متكاملة، وفي فرض أساليب الإنتاج الأنظف على الصناعة لتخفيف الملوثات ووضع قيود تحدد كيفية التخلص من الفضلات. أما التصرُّف الفردي في رمي النفايات على الشواطئ وفي الطبيعة وعلى الطرقات، فمعالجته تكون في تطبيق عقوبات رادعة، من الغرامات الفورية إلى السجن.
حين نرى عمال تنظيف ينتشلون عن جوانب الطريق، بملاقط خاصة، النفايات المرمية من نوافذ السيارات في اليوم السابق، يجب أن نتساءل: هل نحن في حاجة إلى عمال يجمعون النفايات أم إلى رجال شرطة يعاقبون أولئك الذين يرمونها في الأماكن العامة؟ أما حملات التشجير الفولكلورية التي يقوم بها متطوعون وترعاها شركات، بعضها من كبار الملوّثين، فينحصر اخضرارها أمام عدسات آلات التصوير، إذ إن العناية بالأحراج مهمة يومية تحتاج إلى رقابة متخصصة ورعاية مستمرة لا تؤمنها إلا المؤسسات العامة، خصوصاً البلديات.
العمل التطوّعي مهمّ جداً لرعاية البيئة، لكنه لا يعفي السلطات الرسمية من مسؤوليتها في وضع القوانين وتطبيقها. فماذا ينفع غرس ألف شجرة، إذا سمحت السلطات بجرف مليون شجرة أو حرقها؟ وماذا ينفع جمع ألف كيس من نفايات على الشاطئ، إذا أبقت السلطات مكبات النفايات أكواماً تجرفها أمواج البحر وتقذفها على كل شاطئ؟ وماذا ينفع التقاط بضع أوراق وسخة يجمعها عمال التنظيفات من جوانب الطرق يومياً، في غياب أي قانون يطبّق لمعاقبة الملوّثين؟
العمل الشخصي لا يكفي وحده لرعاية البيئة. فهو لا يحقّق أهدافه إلا حين تتحول جماعات البيئة إلى قوة ضاغطة، تفرض وضع القوانين وتطبيقها. فحين تشتري سيارة بمحرك كهربائي، تذكّر أن ملايين السيارات ما زالت حولك تعمل بمحركات ملوثة، ولن يحصل التحوّل الكبير في قطاع النقل إلا بقوانين صارمة تُفرض على الجميع، أولها تطوير النقل العام.
عندما كان كلاوس توبفر، المدير التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وزيراً للبيئة في ألمانيا، قفز يوماً في أحد مجاري نهر الراين، أمام عدسات الكاميرات، وسبح من ضفة إلى أخرى. كان النهر يعاني تلوّثاً مصدره أحد المصانع، فمنع الوزير الألماني المصنع من متابعة التلويث وأجبره على تنظيف النهر، وبعد ذلك قفز إلى مياهه أمام الكاميرا لبثّ الثقة في الناس. لم يأتِ على رأس مجموعة متطوّعين لالتقاط بعض النفايات عن ضفاف النهر في حفلة استعراضية، بل قام بالعمل المطلوب منه، وبعد ذلك فقط استدعى المصوّرين.
العمل الشخصي مهم جداً لتطوير أخلاق بيئية سليمة. لكن ما يحمي البيئة، في نهاية المطاف، هو القانون الرادع لا الزبّالون.

- الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
رئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»