إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

شتات لؤلؤة ومطر السياب

كيف الهرب من مطارق العنف الذي يقرع الرؤوس منذ ثلاثة أيام؟ يتابع المشاهد العربي معلقي الفضائيات وقد تحولوا إلى عرافين وضاربي وَدَع وفتّاحي فال. يتفننون في تكهّن متى سيكون الانتقام وأين. يعتصرون خبراتهم للرد على سؤال المذيع: هل هي الحرب أم أن الأطراف العاقلة ستلجم التصعيد؟ لا أحد يعرف من العاقل ومن الأحمق في السياسة. والخوف كل الخوف على الوطن وأهله. خطوطه متشابكة وقدره يستعصي على المنجمين وقارئات الكف. أهجر التلفزيون وألجأ إلى الكتاب الأخير للدكتور عبد الواحد لؤلؤة لأن فيه الكثير من رائحة العراق. عطر الأدب لا دخان السيارات المشتعلة وقنابل الغاز.
عنوان الكتاب «أوراق الشتات». والكلمة الثانية المضاف إليها باتت مألوفة فيما ينشره العراقيون من إبداع. شعب خرج نصف أساتذته ومثقفيه إلى المنافي والمهاجر. ويقول لؤلؤة، الأستاذ الجامعي والناقد والمترجم المعروف المقيم في كامبريدج، إنه كتب هذه الأوراق في أيام الشتات التي طالت، لأنه وجد في الكتابة نوعاً من السلوى. فإذا استطاعت هذه الدراسات أن تجلب السلوى للقارئ العربي المُضيّع ما بين الماء والماء، يكون قد أصاب المؤلف منها رذاذ.
من بين العشرات الذين يرد ذكرهم في الكتاب أتوقف عند جبرا إبراهيم جبرا. ولو كان العراق على شيء من الاستقرار لربما كان مثقفوه يحتفلون هذا العام بمئوية هذا الروائي والناقد والمترجم والرسام الفلسطيني المولد، البغداديّ الإقامة والهوى والانطفاء. ففي أواخر الأربعينات الماضية، وصل إلى العراق شاب يحمل شهادة عليا في الأدب الإنجليزي من جامعة كامبريدج وبدأ التدريس في دار المعلمين العالية. يكتب لؤلؤة أن شعراء وفناني العاصمة سرعان ما التفوا حول هذا القادم الجديد ذي الثقافة العالية، يستمعون إلى تفسيراته أعمال الشعراء الأوروبيين، ويتابعون محاضراته، ويجالسونه في العصاري في «السويسرية»، مقهى النخبة في شارع الرشيد. وكان من بين الذين صادقوا جبرا شاعر شاب صاعد هو بدر شاكر السياب. جالسه في المقهى وزاره كثيراً في داره، حيث كان في مقدوره أن يوجه أسئلة محددة عن شكسبير، وعن شاعره المفضل تي إس إليوت.
أنقل من الكتاب: «ولسبب مجهول، كان بدر مهتماً بشعر إيدث ستويل. كان يصرّ على معرفة كيف لقصيدة مثل «ما زال يهطل المطر» أن تستهوي النخبة الأدبية في أواخر الأربعينات من القرن الماضي. وإذ لم يكن بدر مقتنعاً تماماً بتفسيرات جبرا فإنه استعار منه مجموعة قصائد ستويل، وأحسب أنها كانت النسخة الوحيدة في بغداد، ولم يعد الكتاب إلى صاحبه».
هل تأثر بدر بالشاعرة البريطانية وهو يكتب «أنشودة المطر»؟ يرى لؤلؤة أن سقوط القنابل الألمانية على لندن قد أوحى لستويل بقطرات الدم الساقطة من جسد المصلوب على الصليب. وهو ليس واثقاً أن بدر قد هضم تلك الصورة لكنه وجد في ترديد عبارة «ما زال يهطل المطر» في قصيدة عربية وفي جو شديد الاختلاف عن جو الشاعرة، علامة على موهبة بدر ومكانته في الشعر العراقي الحديث.
رحل بدر في الكويت، مريضاً فقيراً في ليلة عيد الميلاد، 1964. وبعده بأسبوع رحل شاعره الأثير إليوت في لندن. ويلاحظ عبد الواحد لؤلؤة أن وزارة الثقافة العراقية أقامت لبدر تمثالاً في البصرة أمام البنك الرئيسي في المدينة. في مواجهة المدخل إلى النقود التي عزّت عليه.
كيف الهرب من السياسة ونحن نقرأ السياب: «وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق- من زهرة يربّها الفرات بالندى»...؟