فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

لبنان المريض... «وضمير الانتفاضة» المتوعك

طوى رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق الدكتور سليم الحص، يوم الجمعة 20 ديسمبر (كانون الأول) 2019 عقده الثمانيني وبدأ العقد التسعيني غير مشارك بالحيوية الفكرية والنصح بالانتفاضة التي عندما بدأت يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 كان في وضع صحي دقيق استوجب لاحقاً معالجة جراحية واقتسام الإقامة على سريريْن أحدهما في شقته المتواضعة والآخر في مستشفى الجامعة الأميركية يلازمه الحفيد الطبيب «سليم» من وحيدته وداد.
وعدم المشاركة في الانتفاضة، متابعةً ونصحاً، لرموز النُّخَب وتسجيل مواقف عبْر الصحف والفضائيات تجعله لا يواكب نتاج شتلات غرسها قبل سنوات في حقل الدولة المجدب، كونه وهو الذي جاء إلى رئاسة الحكومة من تجربة مصرفية ثرية وإحاطة بالسلبيات التي يراها دون الآخرين وبالعين المجردة من يقف على رأس الحالة المالية في الدولة، ونعني بذلك حاكم المصرف المركزي، ومَن هو على دراية بالوضع المالي الخليجي (حيث عمل مستشاراً لدى الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية)، والرؤية الدولية للأحوال المالية في العالم (حيث شغل رئاسة مجلس إدارة المصرف العربي والدولي للاستثمار في باريس)، ومِن قبل أن يختاره إلياس سركيس، إلى جانبه كان قد أحاط بكل خفايا الحالة المصرفية في لبنان من خلال ترؤسه لجنة الرقابة على المصارف على مدى خمس سنوات أمكنه خلالها معالجة المضاعفات الناشئة عن سقوط «بنك إنترا»، المصرف الأهم في الخمسينات وبعض الستينات في الحياة المصرفية اللبنانية، ذلك أن هذا البنك الذي عُرف «إمبراطورية يوسف بيدس» بات جزءاً من المسارب الرسمية والشعبية في آنٍ. بل إن يوسف بيدس المصرفي الفلسطيني حقق في لبنان زعامة ذات تأثير فوق زعامات سياسية لبنانية تكررت بعد ذلك من خلال زعامة ياسر عرفات.
إحاطة الدكتور سليم الحص بالأحوال المصرفية والخليجية – الدولية، وكذلك وقوفه على أوضاع غير مكشوف عنها من خلال ترؤسه لجنة الخبراء العرب المنبثقة عن الجامعة العربية، هيّأت له ما لم يتهيأ لغيره من الذين شغلوا منصب رئاسة الحكومة... أيْ بما معناه أنه بات على دراية بالقليل الصالح والكثير الطالح من نظام الحُكْم ومؤسسات الدولة، وكيف يسلك الفساد من دون رادع له، كما كيف هي حال القضاء والقضاة ودهاليز السلطات العدلية.
لم يهنأ سليم الحص طويلاً في ترؤس الحكومة غير مرة ولا ندري إنْ كان سيمارس دوراً إصلاحياً يتناسب مع خلاصة ما بات حاضراً في باله لو قُيض للولاية الرئاسية أن تطول. لكنه عوَّض تأدية ذلك الدور بصفة مواطن رئيس حكومة سابق، وجاء التعويض من خلال أحاديث مع زوار انحسر عددهم بعدما لم يعد رئيساً للحكومة، وتصريحات يدلي بها في مناسبات أو من خلال مقالات يكتبها في صحف لبنانية وخليجية. ومنذ اللحظة الأولى لتوليه المنصب الرسمي رئيساً للحكومة ارتأى النأي عن رغد العيش في «فيلا» شيّدها على قطعة أرض في ضاحية قريبة من العاصمة بما جناه من عمله في الكويت ولم يسكنها سوى خلال سنتيْن من الحرب الأهلية وفضَّل العيش في شقة متواضعة من مبنى سكني عادي في حي شعبي بيروتي (عائشة بكار) لطالما استقبل في شقة بجانبها، خصَّصها مكتباً له، مسؤولين وسفراء عرباً وأجانب وقيادات حزبية. ومن جانبه كان في غاية راحة البال لأنه وفي عيشه البسيط الذي ارتضاه كان إذا جاز القول يستحضر ما عايشه كمسؤول وما وقف عليه من سياسات وسلوكيات لطالما تراكمت وانتهت فساداً ونهباً للمال العام ومتاجرة بالمبادئ وارتهاناً إلى غير. وهو فيما كتبه وما صرح به وما أدرجه في بيان يبدو كما لو أنه البادئ قبل نحو عقديْن من الزمن بالترويج فالتبشير بالانتفاضة الشعبية التي ما زال زيتها لم ينضب وبالتالي فإن الشعلة على ضيائها تبشر بالخير. ولطالما سمعتُ منه الكثير في هذا الشأن بحُكْم الجيرة في مبنى واحد ولقاءات معه يكون الكلام فيها عبارة عن جولة أفق بين مرجعية سياسية واقتصادية وطنية وعروبية مقتدرة، وصحافي وكاتب يتطلع إلى إجابات حول أمور تستوجب التوضيح والتأكيد.
والآن ونحن ما زلنا نعيش وهج عشرة أسابيع من الانتفاضة الشعبية أستحضر مما سبق وقاله الدكتور سليم الحص وبمفردات تحويل الشعور بالمعاناة إلى حراك لا يتوقف، القليل من كثير قاله في هذا الشأن مثل «مشكلة لبنان في فقدان روح المواطنة التي تجمع اللبنانيين على الولاء والوفاء للوطن الواحد، وفي طغيان الفئوية المذهبية والطائفية»، و«أنجزْنا استقلالنا عام 1943 وفشلْنا فشلاً ذريعاً في كسْب الحرية بمعانيها الأُخرى»، و«السُنية السياسية على ما أعهدها مرادفة لالتزام وحدة لبنان المجتمع والدولة، والسُّنة من الفئات اللبنانية النادرة التي تجد لها حضوراً بشرياً ملحوظاً في المحافظات اللبنانية الخمس»، و«القول بأن التوافق راسخ في لبنان قد ينطوي على شيء من المبالغة. وفي لبنان ما يشبه الإجماع على استشراء العصبيات الفئوية الضيقة واستفحال آلة الفساد في المجتمع والدولة».
لكن ما هو اللافت أكثر من تشخيصه للأحوال السائدة في لبنان المريض ووقَفَ عليها بحُكْم مشاركته في المسؤولية السياسية المتقدمة، هي الدعوة إلى الانتفاضة بصيغة نداء صدر يوم 2007.9.11 (أي في مثل هذه الأيام من الانتفاضة قبل 12 سنة) باسم «منبر الوحدة الوطنية» أو «القوة الثالثة» التي ترأسها وتضم بعض أصحاب التجربة السياسية وكانت تعقد اجتماعاتها في مستودع أسفل المبنى حيث يسكن، ما لبث أصحاب المستودع أن استردّوه وجعلوه محلاً لتجارتهم. وعند قراءة مضمون هذا البيان المعنون «دعوة للانتفاض» وبروحية مفردات نهج الإمام علي وأبي ذر الغفاري وعمر بن الخطاب ومفردات النهج «الماركسي -الغيفاري - اللينيني» ومقارنة التعابير مع مطالب انتفاضة «كلن يعني كلن» نستنتج أن الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية الدكتور سليم الحص المتزوج من السيدة المسيحية ابنة دير القمر ليلى فرعون، هو أيضاً «ضمير الانتفاضة». ولأنه الأدرى «لبنان المريض» فإنه أطلق «الدعوة للانتفاض» مبكراً، وفي البيان الذي حوى العبارات الآتية:
«باسم المواطن الطيب البريء. باسم من لم يعد يصبو إلى أكثر من العيش بسلام وأمان في جو من الاستقرار. باسم من لم يطمح أكثر من عيش كريم في ظل اقتصاد متدهور وبطالة مستشرية وهجرة متفاقمة ودَيْن متعاظم وغلاء مُستفحل. باسم من بات يفتقد الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية في وطنه. باسم من لم يعد يطيق العيش في دولة بلا سلطة، وفي مجتمع لا يجمع بين فئاته رابط وكأنما البلد لا يأهله شعب بل قبائل. باسم من كفر بالحرية في بلده؛ إذ لم يعد يستشعر إلاّ بحرية النزاع على السلطة وحرية الفساد والإفساد وحرية التسيب واللامسؤولية والفوضى لا بل وحرية الفقر والعوز والذل والهوان. باسم من سدَّت المماحكات والأنانيات السياسية في وجهه آفاق الأمل بغدٍ واعدٍ مشرقٍ، وضاق ذرعاً بحُكْم أمراء الحرب وهو يُراهن على السِّلْم والاستقرار. باسم من سئم العيش في بلد أضحى فيه المسؤول غير مسؤول والنائب من النوائب والوزير من الأوزار وأضحى فيه الحُكْم تحكماً والديمقراطية عسفاً والنظام فوضى والقانون من شريعة الغاب، ولا فاصِل بين القضاء والسياسة والقاضي الشريف لا تحميه نزاهته. وينتصر الجيش في حرب ضارية مع الإرهاب وليس مَن يدري كيف نشبت الحرب ومَن موّلها ومَن نظّمها ورعاها. باسم المواطن المنكوب المعذب ندين الطبقة السياسية برمّتها وندعو إلى انتفاضة يستعيد بها المواطن قراره من مغتصبيه... يا حبذا لو نسمع هذه الأصوات تنطلق جهورة مدوية...».
شفى الله لبنان الوطن من أمراضه وخفف من أوجاع ضميره الذي هو أيضاً «ضمير الانتفاضة».