إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

معهد اللطافة

مرّت صديقة أميركية بالعاصمة الفرنسية وركبت المترو. قالت لي إنها تفاجأت بالعبوس الذي يطبع وجوه الباريسيين. رأت كل واحد منهم يدفن وجهه في كتاب أو يلصق أنفه بالنافذة متطلعاً إلى الخارج. ماذا وراء النافذة؟ لا شيء سوى عتمة النفق تحت الأرض. حكت لي أن الركاب في بلدها يتبادلون التحية فيما بينهم حين يصعدون إلى القطار أو الطائرة. وهي قد جرّبت أن تلقي التحية في باريس على ركاب الحافلة فنظر الناس إليها باستغراب. تصوروها متسولّة أو معتوهة وأشاحوا بوجوههم عنها. قلت لها إن هناك في حافلات باريس لوحة صغيرة قرب باب الصعود ترجوك أن تلقي السلام على السائق. ماذا تخسر إذا قلت له «بونجور»؟
والعبوس، أو «التكشيرة»، أو الميل للتقوقع والفردانية، ليس «وحمة» ولا صنعة فرنسية بل وباء عالمي. وبلغ الأمر حد تخصيص يوم في السنة للصداقة، أو للابتسامة، أو يوم للقبلة، أو للتذكير بزيارة الجدّ العجوز والسؤال عن الجدة. وفي الأخبار أن إحدى جامعات كاليفورنيا أسست معهداً للبحوث الاجتماعية حول اللطف والكياسة وحسن التصرف مع الغير. وهذا الغير قد يكون قريباً أو غريباً. فما هو تعريف اللطف؟ جاء في تفاصيل التقرير أن له عدة تجليات؛ تقديم المساعدة لزميل في العمل. السؤال عن جار مريض. أن تفسح في الطريق لسيارة وسط الزحام. وهناك العشرات من تلك الأفعال اليومية الصغيرة التي ستخضع للدراسة والتحليل في المعهد المذكور. أكرر اسمه: «معهد اللطافة».
مهمة طلبة المعهد أن يرصدوا تلك الأفعال الفردية ويراقبوا تطورها في المجتمع، أي تقدمها وتراجعها عبر التاريخ والجغرافيا. وهي دراسة تأخذ بعين الاعتبار الوضع الصحي والنفسي والاقتصادي والثقافي للمواطنين «اللطفاء». فالمرء قد لا يكون رائق الطبع أثناء معاناته من ألم الأسنان. أو تستعصي عليه الابتسامة حين تلاحقه الديون. وقد يكون سليل بيئة زرعت في ذهنه أن العبوس دليل الرجولة والوجاهة، وأن البشاشة من قلة الأدب.
هل يكون الباحثون الأميركيون «فاضيين أشغال»؟ لا أظن. فهم ربطوا بين التصرفات اليومية للأفراد وبين السلوك العام، ووجدوا أن المزاج الشخصي يمكن أن يقود إلى العنف المجتمعي. أي ذلك الموجود في الشارع والمكتب والجامعة والشاشات و«فيسبوك». ويبلغ العنف العام درجة الخطر لأنه يمكن أن ينتهي بالإرهاب. والإرهاب هو الشغل الشاغل لحكومات العالم في هذا العصر. ولاتقائه ومحاربته تُنفق المليارات. أي أن مزاجك ومزاجي قضية سياسية. وهو رأي عميد قسم علوم الاجتماع في جامعة لوس أنجليس. وقد يكون هناك من يبتسم ويسخر مما يقرأ، أو يستهجن الفكرة ويقلب الصفحة. أنا أيضاً استغربت الأمر لكنني واصلت قراءة التقرير. ومما جاء فيه أننا نعيش في عالم تكتشف فيه البشرية أنماطاً جديدة من التصرفات. ومهمة علماء الاجتماع أن يضعوا تصرفاتنا تحت المجهر. إنهم يحاولون أن يفهموا سبب تراجع اللطف في العالم. لماذا الذهاب بعيداً؟ لو نبش الأميركان تحت أقدامهم لعرفوا السبب.
يعود بي التقرير إلى فيلم وثائقي كنت قد أنجزته عن الطبيب المصري المناضل محجوب عمر. وكان الرجل خدوماً مُحباً للآخرين، يعلّق وراء مكتبه لافتة كتب عليها «خدّام اللطافة». ووجدت أن من المناسب اختيار تلك العبارة عنواناً للفيلم «محجوب خدّام اللطافة». وفوجئت باعتراض البعض من أصدقائه ومحبيه لأنه وجد في العنوان انتقاصاً من المناضل الراحل. ها نحن قد وصل بنا الأمر إلى اعتبار التواضع والطبع السمح نقيصة وخفّة. على السياسي الحمش أن يرتدي قناع فرانكشتاين.