د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

التقنية المالية في آسيا

لا تزال التقنية تلقي بظلالها على السواد الأعظم من الصناعات في العالم، ومهما بدا أن بعض القطاعات بعيدة عن التقنية وآمنة من تأثيرها، إلا أن التقنية لا بد من أن تؤثر بها بشكل أو بآخر. ولعل تأثير التقنية على القطاع المالي يعد دليلاً واضحاً على قوة هذا التأثير. فحتى وقت قريب، كان الكثير من الناس يتجنبون الدفع الإلكتروني بسبب انعدام الثقة في الوسائل التقنية المالية. أما اليوم فتبدو الشركات التقنية المالية منافساً حقيقياً للبنوك التقليدية، وليس للمبالغة نصيب في ذلك. وفي التجربة الآسيوية مثال حي على هذه المناسبة.
فقطاع التقنية المالية في آسيا هو الأكثر تقدما في العالم اليوم، فلدى الصين وحدها ما يزيد على 260 شركة ناشئة في هذا القطاع، أما الهند فلديها 190 شركة ناشئة، وتأتي سنغافورة بستة وثمانين شركة، وإندونيسيا بأكثر من 40 شركة. ومنذ العام 2016، موّلت صناديق الاستثمار الجريء وصناديق الاستثمار الخاصة أكثر من 800 شركة ناشئة في القطاع المالي في آسيا وحدها. ولم تأت هذه الأرقام من فراغ، فالنمو السريع في عدد شركات التقنية المالية في آسيا مدفوع بطلب عال من المستخدمين. ولا يعد امتلاك التقنية السبب الرئيسي في نمو هذه الشركات في آسيا، فالولايات المتحدة والدول الأوروبية تمتلك من أدوات هذه التقنية أضعاف ما تمتلكه بعض هذه الدول الآسيوية. إلا أن السبب الرئيسي في هذا النمو هو تكييف هذه التقنية بناء على توفر الطلب من المستهلكين الآسيويين.
وقد يبدو أن الاختلاف بين الدول الآسيوية والدول الغربية يصب في مصلحة الدول الغربية، فهي من تملك البنية التحتية التي تؤهلها للتقدم في مجالات كثيرة، إضافة إلى أنها تملك من التشريعات ما فيه تسهيل على تأسيس الشركات الناشئة. إلا أنها - وبوجود هذه المؤهلات - أصبحت أقل حاجة للشركات التقنية المالية من الدول الآسيوية، التي لا يملك الكثير من سكانها حسابات بنكية، فقد أوضح أحد الاستبيانات مؤخرا أنه من بين 400 مليون شخص بالغ في آسيا، أقل من 110 ملايين نسمة يملكون حسابات بنكية تمكنهم من الحصول على خدمات مصرفية. هذا الانخفاض هو ما خلق الحاجة لإنشاء الشركات التقنية التي مكنت الكثير من المستهلكين من تحويل الأموال والدفع الإلكتروني والتأمين بل وحتى الحصول على قروض بمجرد امتلاك هاتف ذكي يعطيهم إمكانية الوصول للشركات التقنية. في المقابل فإن البنوك التقليدية عانت كثيرا في آسيا من عدم وصول الكثير من السكان لخدماتها بسبب زيادة تكلفة البنية التحتية، وانعدام السجلات الائتمانية إضافة إلى الأنظمة المالية الصارمة.
وبناء على ذلك كله، فلا عجب اليوم أن توجد شركات تقنية مالية آسيوية، تزيد قيمتها السوقية على بعض البنوك، بل إن شركة «آنت فاينانشيال» الصينية قُيّمت بأكثر من 150 مليار دولار، وهو ما يساوي ثلاثة أضعاف قيمة بنك (دي بي إس) وهو أحد أكبر بنوك جنوب شرقي آسيا. بل إن هذه الشركة بدأت بالفعل بالاستثمار في شركات تقنية مالية في دول أخرى كان آخرها بمليار دولار في شركة ناشئة هندية. أما شركة «جراب»، فبعد سبع سنوات من تأسيسها، أصبحت قيمتها السوقية تساوي مجموع قيمة 15 بنكا من أكبر 25 بنكا في آسيا.
وما يميز هذه الشركات الناشئة، هو عدم تقيّدها بنشاط واحد فقط، فعلى الرغم من أن الكثير من هذه الشركات تعد من شركات التقنية المالية، فإنها تغذي قطاعها المالي من نشاطات أخرى، مثل الخدمات اللوجيستية والتواصل الاجتماعي وغيرها. وهذا الأمر بالتحديد تفوقت فيه دول آسيا على بقية دول العالم، وهو استحداث مفهوم (التطبيق الخارق)، فعلى سبيل المثال، يعد برنامج (وي تشات) الصيني أحد التطبيقات الخارقة، فمن خلال هذا التطبيق يمكن للمستخدم التحدث مع أصدقائه، والدفع من خلال محفظته الإلكترونية وحجز مقاعد صالات السينما وسيارات الأجرة وبيع منتجاته وغيرها.
إن القفزة في الشركات التقنية المالية في آسيا لم تكن مدفوعة بتفوق آسيا في القطاع التقني، بل جاء من توظيف التقنية بحسب حاجاتهم المحلية، وهذا الطلب المحلي هو ما يسبب الاستدامة في هذا القطاع، والمنافسة المحلية فيه جعلت الدول الآسيوية مثل ماليزيا وإندونيسيا تقوم بتصدير هذه التقنيات إلى دول آسيوية أخرى. وهذا المبدأ لا ينطبق على التقنية المالية فحسب، فلكل دولة أو منطقة خصوصية في احتياجاتها المحلية، وما يجعل تطبيقات معينة أو قطاعات محددة تنجح في دول، قد لا يجعلها قابلة للنجاح في دول أخرى حتى مع ارتفاع معايير التطبيق، فبيئة السوق ومدى احتياجها عاملا رئيسيان في النجاح. ووجود التقنيات لمجرد وجودها لا يعد إضافة، إن لم يكن في وجودها حل لمشكلة قائمة.