د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

برامج «التنفيس» الإعلامي

انقسم مشاركون أمس، في منتدى الإعلام السعودي في الرياض عندما طُرح تساؤل: هل البرامج الحوارية (توك شو) في الوطن العربي ظاهرة متعمَّدة للتنفيس عن الناس؟ أنا مع الفريق الذي يراها صورة مهمة من صور التنفيس عن المواطنين بل حتى المقيمين في كل بلد. فإذا لم تجد منبراً قوياً وصادقاً في طرحه الموضوعي والبنّاء والجاذب ستنصرف فئة من الناس إلى طرق أخرى للتعبير عن مشاعرها، ربما يكون بعضها عنيفاً أو جارحاً أو تحريضياً.
وهذا ما يضعنا أمام تحدي إعادة النظر في تقديم برامج حوارية فيها جرعة كبيرة من التشويق والجاذبية في عصر «الإعلام الجديد»، وذلك بأن تعكس بصدق آراء الناس في سقف مرتفع من حرية التعبير. فالأمم المتقدمة، كما قال الإعلامي وائل الأبراشي المشارك في الجلسة، «لا تخشى من مناقشة قضاياها الداخلية على الملأ، وهي ليست صورة من صورة الإساءة للبلد». الأمر الذي أكده أيضاً الإعلامي المميز علي العلياني. فها هي أوروبا تناقش بحدة مستقبلها ولم يزعزع ذلك سمعتها.
إذن، نحن بالفعل كبلدان نامية بحاجة إلى مصارحة أنفسنا بمشكلاتنا ووضعها على بساط النقاش العقلاني بعيداً عن التجريح. فبرامج الـ«توك شو» الحوارية هي صورة من صور بداية «الإصلاح» الإداري والاجتماعي والتنفيس عن هموم الناس. فمجرد التعبير عن الرأي يريح المرء ويجعله ينصرف إلى سائر شؤون حياته.
مشكلتنا مع البرامج الحوارية أننا نعاني من تحيز المقدم واعتبار نفسه ضيفاً ثالثاً ضد الضيف الأول الذي اكتشف نفسه في مصيدة تلفزيونية. مشكلتنا أيضاً أن مقدم الـ«توك شو» لا يقدم نفسه كـ«محامٍ للشيطان» تارةً ثم شرطي وديع تارة أخرى، بل يمارس الندّية طوال الوقت تجاه ضيف واحد فقط. كما أن مشكلتنا تكمن في من يخلط الرأي بالحقيقة ويقتطع ثلث مدة برنامج «حواري» ليُنَظِّر علينا بمقدمة هزيلة يقحم فيها رأيه في محاولة مكشوفة لتوجيه رأي المشاهد من دون احترام حقه في الاختيار أو الاستماع المتوازن لطرفين مختلفين ليكوّن بعدها قناعاته.
مشكلتنا مع الـ«توك شو» حينما يعتبر مقدم البرنامج الحواري نفسه أهم من الضيف، فينعكس ذلك في روح التعالي المخيّمة على أجواء اللقاء وأسئلته. ولذا قال لاري كينغ الذي دخل موسوعة «غينيس» من أوسع أبوابها بأطول برنامج حواري في «CNN» الإخبارية: «أنا لم أشعر قط بأنني أهم من ضيفي، وتنحصر مهمتي في التركيز الجيد، وحسن طرح الأسئلة التي تدور في ذهن المشاهد». وهذا سر تألقه.
أما مشكلة المشكلات فهي غياب فضيلة الإنصات الجيد للضيف وعدم مقاطعته في الوقت المناسب. ففي دراستي العلمية مع رئيس قسم الإعلام الأسبق بجامعة الكويت توصلنا إلى نتائج مهمة، منها أن مقدمي البرامج كانوا أكثر ممارسة للمقاطعة المذمومة للمتحدثين قبل أن تكتمل أفكارهم بصورة فاقت الضيف نفسه، رغم أنه من المفترض تلقي المذيعين للتأهيل الكافي.
في الجلسة الحوارية «برامج التوك شو... هل هي تنفيس أم علاج؟» تعززت قناعتي بأن البرامج هي تنفيس مشروع عن هموم الناس. غير أن الإعلام لا «يعالج» بل يسلّط الضوء على قضايا المجتمع، ويصبح أكثر فعالية إذا وضع بعض الحلول على بساط النقاش العقلاني شريطة أن يشارك فيه كل الأطراف من دون أجندة خفية لمقدم البرنامج، وقبل كل شيء احترام عقلية المشاهدين.