يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

التفسّخ السياسي: مآلات التصعيد الإيراني في المنطقة

المحاولات المستميتة لعقلنة السلوك الإيراني في الملف النووي من قبل بعض الدول الأوروبية، وفي مقدمتها فرنسا، تشكل أزمة بحد ذاتها، ليس بسبب دوافعها الاقتصادية ذات المنزع البراغماتي سياسياً، بل لأنها تؤطر نظام ملالي طهران ضمن سياق تفاوضي مع دولة متجاوزة في ملف خطة عمل شاملة ومشتركة. هذا التأطير يتجاهل أن جذر الأزمة مع نظام طهران هو في سلوكها الثوري والتوسعي ومشروعها في رعاية الإرهاب وميليشيات الخراب التي تقوض أمن الدول التي تستثمر فيها ثوريتها المسلحة، كما تهدد أمن باقي دول المنطقة، كما أن مثل هذا التأطير القاصر يشرعن التمادي من قبل دولة الملالي حتى في الملف النووي، وهو ما بدا واضحاً في التصعيد ما بعد الاعتداء على منشأة بقيق في السعودية، فالتقارير الأمنية التي تصدرها مراكز تحليل السياسات وتتبع نشاط إيران تتحدث عن ذلك التصعيد بهدف الذهاب إلى الحد الأقصى من الضغط لإرغام الولايات المتحدة وإدارة الرئيس ترمب وليس الأوروبيين على إعادة النظر في العقوبات التي أنهكت طهران، ومن ذلك التصعيد وضع ألغام أرضية تستهدف الناقلات، هذا التصعيد الخطير على المستوى الأمني يقابله تصعيد في الملف النووي بتوسيع تجربة استخدام أجهزة الطرد المركزي وإجراء المزيد من الأبحاث وتسريب معلومات عنها بهدف الضغط على الملف الأوسع الذي تتجاهله الدول الأوروبية، وهو التصالح مع سلوكها العدواني من خلال التفاوض الذي حين يزداد الضغط على النظام يرسل إشارات إيجابية لمجرد كسب الوقت، في انتظار ما يأمله حول تحول في الإدارة الأميركية ما بعد الانتخابات، أو على الأقل تحول في الاستراتيجية باتجاه التفاوض بهدف أيضاً مكتسبات سياسية انتخابية.
السلوك الإيراني في المنطقة اليوم يعيش حالة «تفسّخ»، حيث تشي الاحتجاجات المتعاظمة في العراق ولبنان على نفاد صبر حتى الكتل التي كانت تنظر إلى نظام طهران بشكل إيجابي أو محايد بسبب أن رعاية الميليشيات واقتصادياتها والدفع نحو تأزيم الحال السياسي يقتضي بالضرورة فشلاً على مستوى إدارة الدولة ومنطقها مهما طال الوقت أو قصر لترميم تبعات منطق الثورة وسلوك الميليشيا الذي لا يمكن أن يعيش إلا على لعبة توازنات تتعلق بالفساد وإعادة تشكيل الفاعلين السياسيين وفقاً للولاء والمنزع الطائفي، بحيث يتحول وكلاء طهران في تلك الدول إلى أمراء لولايات ميليشياوية داخل دول تعيش تحديات اقتصادية كثيرة لا يمكن مع الضغط المتزايد وإن كان لا يزال اقتصادياً على نظام طهران إلا أن يعجل بحالة «التفسّخ» والتحلل من شكلانية الدولة وانكشاف عورة الميليشيا واقتصادياتها القائمة على الفساد والمحسوبيات والنهب. في العراق فقط بلغ وكلاء طهران من المنظمات التابعة لها قرابة الأربعين منظومة تتخذ شكل المؤسسات لكنها ليست إلا أذرعاً ميليشياوية تحتها مئات الآلاف من المجندين المدربين الذين كانوا ينضوون تحت قبّة «الحشد الشعبي»، على مرأى من المجتمع الدولي، الذي تساهل مع هذا التمدد الميليشياوي في مقابل مكافحة إرهاب «داعش» الذي لا يزال يعيد إنتاج نفسه الآن بعد أن تجاوز صدمة مقتل الخليفة وانتقل إلى استراتيجية الانتقام. فثمن شرعنة إنتاج ميليشيات موالية لإيران ومتقنعة بغطاء وشكلانية مؤسسات الدولة يبدو اليوم أنه باهظ جداً ولم يكن فاعلاً في دحر «داعش»، قدر أنه ساهم في خلق المناخ الذي يعيد إنتاجه بسبب سلوك تلك الميليشيات في الكسب المالي القائم على الفساد والتهريب والسيطرة على الحدود، وإقامة قواعد وثكنات خارج مراقبة الدولة وسيطرتها، وإذا كان الأمر بدا فوضوياً في الحالة العراقية بسبب الفشل الذريع منذ الحرب على العراق في بناء منطق الدولة، فإن القبول بمنطق الدولة داخل الدولة في الحالة اللبنانية التي تتجذر فيها أزمة العسكرة والميليشياوية المتمثلة في تجربة «حزب الله» أكثر كارثية باعتبار تحوله إلى شذوذ يدافع عنه عبر منطق الدولة وشرعيتها.
نظام الملالي يقتات على مسألة الثبات واللعب على عامل الوقت في مقاربته للسياسة الخارجية منذ لحظة ولادته الثورية وتحول النظام إلى دولة بوليسية بأذرع إقليمية تقوم هويتها على شرعنة الانتهاكات والتدخل السياسي ورعاية وكلاء وميليشيات مقوضة للدول في المنطقة.
اليوم فكرة الدولة تعيش تحولات هائلة، خصوصاً فيما يتصل برهانها الاقتصادي. العالم على مستوى سياسة الدولة لا يمكن أن يبتلع ثوروية الملالي العابرة للحدود على طريقة الأنظمة البوليسية مهما طال الوقت، فالمآلات التي أفرزت حالة التفسّخ السياسي لوكلاء طهران ستقود إلى الحال ذاته للنظام نفسه بعيداً عن الشغب حول الملف النووي الذي يتبدى اليوم كقراءة قصائد فارسية على نهر السين وانتظار معجزة التفاوض والحوار وكل متواليات النوايا الطيبة التي تصنع جحيم الواقع.