د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

عن كرة القدم ومستقبل التجارة الدولية

عند اطلاعك على قوائم لتصنيف الكتب الأكثر تأثيراً على عموم الناس حول العالم فستجد كتاباً صغيراً عن قواعد لعبة كرة القدم يتصدر هذه القوائم. صدر هذا الكتاب عام 1863 في لندن وكتبته مجموعة من محبي كرة القدم التي أصبحت بعد ذلك اللعبة الأكثر شعبية على الإطلاق في العالم أجمع. تضمن الكتاب 13 قاعدة تحكيمية عن المسموح والممنوع عند لعب كرة القدم، وأدرجه الكاتب والبرلماني الإنجليزي ميلفين براج ضمن كتابه المعنون «12 كتاباً غيرت العالم». ويستحق هذا الكتاب البسيط هذا التصنيف لأنه وضع ببساطة وييسر القواعد الواجبة الاتباع في ممارسة اللعبة، فأينما وجدت كرة قدم وانتظم فريقان للعبها متنافسين على الفوز بمباراة لها اتبعوا القواعد والمعايير والأحكام المنظمة للعبة، سواء كانت المنافسة محلية في ساحة شعبية في قرية صغيرة أو على ملاعب تحيطها مدرجات مهيبة أعدت لمسابقات دوري المحترفين أو كأس العالم؛ هكذا سيخبرك البرازيلي بيليه والأرجنتيني مارادونا والمصري محمد صلاح والفرنسي ذو الأصول الجزائرية زيدان.
استصحب قواعد وأحكام كرة القدم وتأثيرها لشرح وجيز لموضوع قد يبدو أكثر تعقيداً ويتعلق بما يعرف بسلاسل القيمة العالمية وما يترتب على الارتباط بها في حركة التجارة الدولية وتأثيرها على عمليات الإنتاج وفرص العمل والنمو الاقتصادي. فقد خصص التقرير الأخير للبنك الدولي عن التنمية في العالم موضوعه لهذا العام عن التجارة والتنمية في عصر سلاسل القيمة العالمية، والتي يقصد بها الأشخاص والأنشطة المشاركين حول العالم في إنتاج سلعة أو خدمة بما في ذلك توريد الخامات والمكونات حتى إتمام المنتج وتسويقه وتوزيعه وبيعه وتقديم ما يخصه من خدمات ما بعد البيع. وتختلف التجارة عبر سلاسل القيمة عن نظم التجارة العادية بأنها ترفع الكفاءة من خلال مزيد من التخصص، كما أنها من خلال العلاقات المستمرة بين الشركات والمنشآت الإنتاجية وبعضها البعض والتي تتجاوز مجرد عقد صفقات متناثرة، تزيد فرص التعاون في مجال التطوير التكنولوجي والحصول على التمويل ومدخلات الإنتاج المختلفة.
وتقدر دراسة البنك الدولي إن كل زيادة بمقدار 1 في المائة من المشاركة في منظومة سلاسل القيمة العالمية يترتب عليها زيادة نمو متوسطات الدخول بقيمة مماثلة، وهو ما يعادل ضعف الزيادة المتحصلة من نظم التجارة العادية. كما أن لهذه المشاركة آثاراً إيجابية من خلال تفعيل اقتصاديات الحجم الكبير على زيادة فرص العمل وتخفيض معدلات الفقر.
ولكن مزايا التجارة من خلال سلاسل القيمة العالمية تحتاج إلى سياسات اقتصادية منضبطة حتى لا تجور مساوئها على منافعها؛ إذ من الوارد أن تتركز عوائد التجارة فيما تتحصل عليه الشركات الكبرى على حساب الموردين في دول نامية، كما تلاحظ تحول الإيرادات من مكاسب وأجور العمل إلى أصحاب رأس المال وكذلك المستحوذين على حقوق الملكية وشركات اللوجيستيات وتكنولوجيا المعلومات. كما أن هناك آثاراً بيئية ضارة أكثر ارتباطاً بأنشطة سلاسل القيمة مقارنة بالتجارة التقليدية يجب التحسب لها.
قد تلجأ بعض الحكومات لإجراءات في الأجل القصير للتعامل مع الآثار السلبية لمنظومة سلاسل القيمة وقد تنصب هذه الإجراءات على عمليات التعويق والتقييد والكبح والمنع. فتبالغ في فرض الضرائب والرسوم وتفرض من التدابير ما قد يظهر وكأنها تتعقب النشاط الاقتصادي فتعاقبه بإجراءات انتقامية تتصاعد مع توسعه. وفي هذا العالم الرحب سيتوجه النشاط الاقتصادي استثماراً وتجارة حيثما تتيسر باعتدال قواعد العمل وتزداد التنافسية ويجود مناخ الاستثمار وتستقر التشريعات وتتوفر المهارات وترتقي أسس الحوكمة وممارساتها. والأحرى بحكومات الدول الساعية للتقدم حقاً أن تضع الأولوية لكيفية أن تكون في قمة المنتفعين من سلاسل القيمة العالمية، وأن تتحقق لها بالمشاركة فيها أعلى عائد لمواطنيها واقتصادها وموازناتها العامة.
وفي هذا العالم الذي يشهد منافسة حول إمكانية الانتفاع بمستحدثات الثورة الصناعية الجديدة وعمادها النقلات النوعية في مضمار تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي ينبغي للدول أن تتهيأ لها بالاستثمار في البشر والإلمام بعلوم العصر ومن أهمها ما يرتبط بإدارة قواعد البيانات الكبرى والذكاء الاصطناعي.
وأضرب مثلاً بما يترتب على ما ذكره «جاك ما» المستثمر الصيني الشهير المؤسس لشركة علي بابا الصينية المنشأ العالمية النشاط، فقد استمعت إليه متحدثاً في مؤتمر بمنظمة التجارة العالمية وهو يقول إن التجارة العالمية تتحول من تجارة اعتمدت على الحاويات إلى شبكات تنقل طروداً أصغر حجماً وأعلى قيمة. وإنه يهدف من خلال مؤسسته إلى أن يربط لوجيستيا كل منشأة ومركز تصنيع ومجمع تجاري وكل مدينة وكل منزل. وإنه سيضمن أن تصل طرود السلع والمنتجات لطالبيها في خلال 24 ساعة لأي مكان في الصين وفي مدة لا تتجاوز 72 ساعة خارجها. وإن مؤسسته تسعى إلى تخفيض تكلفة النقل والعمليات اللوجيستية بنحو الثلثين باستخدام قواعد البيانات الكبرى وحلول علمية تعتمد على تكنولوجيا المعلومات ومستحدثات التجارة الإلكترونية.
ولتوضيح التطور الهائل في لوجيستيات النقل ذكر جاك ما أنه عندما تنبأ منذ عشر سنوات بأن تجارة الطرود ستتجاوز مليار طرد سنوياً لم يصدقه أحد، ولكن هذا الرقم أصبح يتحقق أسبوعياً وليس سنوياً. هذا ما يحمله إلينا عالم جديد شديد التغير فهل استعددنا له أم ترانا منشغلين بما عفّى عليه الزمن من أنماط للإنتاج والتجارة أكثر تكلفة وأقل عائداً ومهدرة للقيمة؟
ولنربط الأمر كله بما قدمنا به هذا المقال عن القواعد المحددة والمعايير الملزمة ولنعبر بها من نطاق كرة القدم إلى عالم الاقتصاد والأعمال. فبدون معايير يتفق عليها ستزداد تكلفة المعاملات وستعوق فرص نمو الأنشطة الاقتصادية في عالم يزداد اعتماداً على التحول الرقمي والمعايير التكنولوجية والقواعد الرقابية الفنية المعتمدة عليها في تيسير أو تعويق التجارة.
والأمر في نهايته كما هو في بدايته مسألة اختيار للعرب بين أن نكون ذوي شأن في إطار عالم جديد بمعايير مبارياته وألعابه ومنافساته سواء في كرة القدم أو الاقتصاد الدولي والتجارة الإلكترونية وسلاسل القيمة العالمية وبنيتها الأساسية المعقدة، أو لا نكون. هي مسألة اختيار في أن نأخذ بأسباب العلم وتطبيقاته لكي نكون في مقدمة سباق الأمم أو خارجه ننعى زمناً كانت فيه أرضنا خصبة في جدب الزمان ثم أجدبت في الزمن المخصب، وهو ما حذر العرب منه شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدة لاذعة حملت هذه الكلمات منذ قرن من الزمان.