د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

أزمة إثيوبيا هيكلية وتاريخية وليست عارضة

البلدان التي تتنوع فيها الأعراق والديانات واللغات، كإثيوبيا التي يصل عدد عرقياتها إلى 80 عرقية تتحدث مئات اللهجات، تتطلب مهارة خاصة في إدارة هذا التنوع، وهي مهارة تتعدى قدرات الأفراد، أياً كان تمتعهم بسمات قيادية تثير الإعجاب لدى البعض، أو تكون سبباً للحصول على جوائز عالمية؛ إذ تتطلب بناء هيكلياً يسمح لكل فرد أياً كانت عرقيته أو دينه أو لغته بأن يجد نفسه كمواطن، وأن يتمتع بالفرص ذاتها التي يحصل عليها الآخرون من الأديان والأعراق المختلفة، وأن تسود المجتمع قيم التسامح والمشاركة وقبول الاختلاف، كمصدر قوة وليس عنصر تهديد.
والواضح أن إثيوبيا بعد 30 عاماً من انهيار حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي، لم تصل بعد إلى هذه الحالة التي تصبح فيها عملية إدارة التنوع مسألة روتينية بلا منغصات.
فالاضطرابات التي مرت بها إثيوبيا في الأسبوعين الأخيرين، من حيث عنفها، سواء من قوات الأمن أو بعض المحتجين ليست جديدة، وما وقع فيها من ضحايا نتيجة قتل مجموعات من عرقية الأورومو لآخرين من العرقية ذاتها لكنهم مختلفون في اللهجة، أو من عرقيات أخرى كالأمهرا أو التيغراي، أو نتيجة عنف قوات الأمن ضد المتظاهرين، يمثل بشكل أو بآخر امتداداً لما شهدته إثيوبيا في نهاية عام 2015 ومطلع عام 2016، والذي أدى آنذاك برئيس الوزراء ديسالين إلى تقديم استقالته من منصبيه الحزبي والتنفيذي، طمعاً في احتواء الاضطرابات واستعادة الاستقرار العام في البلاد، كما جاء في خطاب استقالته «الطوعية». ونلاحظ هنا أن اختلاف شرارة اندلاع الاضطرابات في الحالتين لا يخفي العوامل الرئيسية التي تجعل من هذه الاضطرابات قابلة للتكرار مرة تلو أخرى، ما دامت الأسباب الرئيسية والهيكلية موجودة، والسياسات التي تحاول معالجتها تظل قاصرة عن إحداث تغييرات رئيسية تعالج تلك النواقص الهيكلية.
شرارة الاضطرابات الأخيرة التي اندلعت نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وما زالت، ارتبطت كما هو معروف بما ادعاه الناشط والإعلامي ذائع الصيت محمد جوهر، من الأورومو، من أن قوات الأمن سوف توقف حمايته لبيته كمقدمة لاعتقاله؛ نظراً لموقفه الناقد لرئيس الوزراء آبي أحمد، ما يعكس استمرار السمات الديكتاتورية - حسب جوهر - والتي يفترض أن آبي أحمد جاء لتفكيكها، ما دفع مؤيدي جوهر إلى نزول الشارع لحمايته من الاعتقال المفترض، ثم تطورت الأحداث لتصبح مواجهات ذات طابع عرقي وديني، في أديس أبابا وعدد كبير من المدن والبلدات، حسب وصف آبي أحمد للأحداث في معرض التنديد بها؛ حيث حُرقت مساجد وكنائس، وقتل مدنيون مدنيين آخرين لاختلافهم في العرقية.
وهنا جوهر الأمر، أن التعددية التي تعيشها إثيوبيا لم تجد النظام السياسي الذي يحولها إلى انتماءات فرعية وليست انتماءات أصلية على حساب الانتماء للوطن الجامع، وهو إثيوبيا.
إدارة التعددية العرقية والدينية عناصرها الرئيسية تشمل العدالة والمساواة والمشاركة للجميع من دون قيود، وأن يحميها دستور وقوانين تعالج أي قصور في الميدان أولاً بأول، وهي كلها عناصر غائبة في الحالة الإثيوبية، حسب مثقفين إثيوبيين وأفارقة يتابعون الأوضاع الإثيوبية عن كثب ودون انحياز مسبق. فالشعور بالظلم السياسي والتهميش الاقتصادي الذي يتحدث عنه مثقفو الأورومو والأمهرا الذين يشكلون 60 في المائة من سكان البلاد ليس مجهولاً. إنه معروف للكافة. وهو ناتج عن ثلاثة عقود من سيطرة أقلية التيغراي على الحكم، وهم الذين يشكلون أقل من 7 في المائة من تعداد السكان، 80 في المائة منهم يدينون بالمسيحية الأرثوذكسية، بينما الأورومو يصلون إلى 35 في المائة من السكان، ويمتلكون وفق التقاليد القبلية مساحات واسعة من إثيوبيا، ولكنهم لا يحصلون إلا على أقل القليل من الاستثمارات وجهود التنمية الحكومية، والتي يوجه جلها إلى مناطق التيغراي والأمهرا، وإن بدرجة أقل، وتُحرم منها بقية العرقيات.
وفي خضم اضطرابات عام 2015، ظهرت مفاسد نظام سيطرة الأقلية التيغرانية، إذ من الأسباب المباشرة للاحتجاج مزيج من مساعي الحكومة لاحتكار أراضٍ واسعة يملكها الأورومو، وتحويلها إلى استثمارات زراعية وصناعية لصالح رجال أعمال وسياسيين وقادة جيش وأمن من التيغراي، إضافة إلى توسع الأمن في اعتقال شباب الأورومو؛ حيث تجاوز عدد المعتقلين أحد عشر ألف شاب.
أحد التفسيرات التي قيلت آنذاك وتكررت في الاحتجاجات الحالية، أن الفيدرالية والديمقراطية والتعددية الحزبية ليست سوى عملية خداع كبرى للداخل والخارج على السواء، وما يجري على أرض الواقع هي ديكتاتورية أقلية مهما كانت الرتوش الإصلاحية التي يعلن عنها بين حين وآخر. ولذا يأخذ كثيرون على آبي أحمد أنه لم يحقق وعوده الإصلاحية التي فهمها الغالبية على أنها ستكون عملية إعادة هيكلة للنظام السياسي كله، وما يرافقه من توزيع عادل لفرص التنمية لكل المناطق، وإعطاء نسبة أكبر لتلك التي حُرمت من التنمية في العقود الثلاثة الماضية، وأن المطلوب أكثر من مجرد خطوات علاجية محدودة، مثل إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين، في حدود سبعة آلاف، واستمرار اعتقال ما يقرب من ثلاثة آلاف آخرين من دون محاكمات، وتحسين لعلاقات إثيوبيا الخارجية؛ لا سيما مع إريتريا، والتي استندت إليها لجنة «نوبل» لمنحه «جائزة نوبل للسلام».
و«جائزة نوبل» لم تخلُ من مفارقات، فالسلام مع إريتريا خصم من أديس أبابا أحد الأسباب التي كانت تروجها وراء الاضطرابات الداخلية، وهو العامل الخارجي، كما حدث في 2015؛ حيث حملت الصحافة الإثيوبية على كل من مصر وإريتريا باعتبارهما وراء الاضطرابات، وتناثرت تصريحات لمسؤولين كبار تدعم هذا التفسير، وبيان أن ما تواجهه البلاد نوع من التخريب المدعوم خارجياً، ومن دول لا تريد الخير لإثيوبيا، ومن ثم تبرير عمليات القمع التي وجهت للمتظاهرين والمحتجين. وهي ادعاءات نفتها مصر بشدة، وكذلك إريتريا، ولم تقدم أديس أبابا آنذاك أي دليل على تلك الادعاءات.
وفي ظل السلام مع أسمرة، وحتى في الخلاف مع مصر بشأن تقنيات ملء «سد النهضة»، فمن الصعب على أديس أبابا أن توجه لوماً للقاهرة أو لأسمرة باعتبارهما وراء الاضطرابات.
واقع الحال أن آبي أحمد الحائز «نوبل للسلام»، إن أراد إصلاحاً جوهرياً فسوف يواجه عقبات كبرى؛ أولها من ائتلاف «الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية» الحاكم، الذي وافق على تعيينه رئيساً للوزراء بعد استقالة ديسالين، كخطوة تبرز نوعاً من التغيير في هيكل السلطة، وتشير رمزياً إلى مشاركة الأورومو فيها عبر شخصه، وبما يهدئ الاضطرابات وقتياً؛ لكن لا يعالج أسبابها.