إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

حيدر ملاك بابل

بالغاز المسيل للدموع ودخان الحرائق، اختنق حيدر القبطان وتحول إلى اسم جديد في قائمة الكواكب الآفلة. خرج الناشط الشاب يتظاهر في بابل ضد حكومة الفساد، ولم يعد إلى بيته. كان يتوشح بعلم العراق وصار العلم كفناً له. قرأت الخبر في الصباح ورأيت الصور وأحزان رفاقه. لا أدري لماذا تذكرت مسرحية «هبط الملاك في بابل» للسويسري فريدريش دورنمات. كم من التواريخ الفذة والنبوءات والأساطير حيكت حولك يا بابل؟
على مدى أجيال، كان طلبة أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد يتمرنون على تقديم تلك المسرحية المدهشة. قد تغريهم شهرة مؤلفها، أو اسم بابل التي هي أرضهم وملكهم وقد استعاره الكاتب منهم. يهبط الملاك في المدينة باحثاً عن أفقر شحاذ فيها ليهديه حورية تعيش معه على الأرض. هل كانت حورية أم ملاكاً أنثى؟ مضى الزمن الذي اختلف فيه الفلاسفة حول جنس الملائكة. يغضب ملك بابل ويتصارع مع الشحاذ للفوز بقلب الملاك الهابط من السماء. كأن الصراع ذاته ما زال يدور منذ خمسة آلاف عام. وفي الصيف الماضي أدرجت «اليونيسكو» آثار بابل على لائحة التراث العالمي. ومن المنتظر أن تكون المدينة عاصمة للسياحة العربية عام 2021. هكذا تجتمع المأساة والملهاة.
لا أعرف حيدر القبطان لأكتب عن صفاته وأرثيه بما يليق. لكن الشهداء يعرفوننا حين ينزلون ليدافعوا عن كرامتنا. وهم دائماً أكبر من النصوص التي تُرتجل عنهم. مع هذا لا يمر الملائكة في سماواتنا مرور الكرام. تمضي الأيام وتتحول تضحياتهم إلى لوحات مرسومة وأناشيد مغناة وقصائد وروايات. ومهما أبدع محترفو القول والتصوير والكتابة فإن مشهد الملاك المختنق في بابل هو الأبلغ. والهواتف تلتقط الصور والمواقع تنقل الأفلام وتوثّق الأحداث.
قبل سنوات، تحولت صورة «عذراء الجزائر» إلى أيقونة طافت العالم. وكذلك صورة الفلسطينية التي تحتضن زيتونتها لمنع جنود الاحتلال من اقتلاعها. وقبل أشهر صارت كنداكة السودان رمزاً للثورة. وأمس تبادلنا صورة بائعة المناديل التي منحت بضاعتها إلى المتظاهرين في بغداد لكي يجففوا عرقهم. ثم جاءت صورة تلك السيدة العراقية التي نزلت مع الفجر لتلتحق بالمظاهرة. كانت ترتدي فوق عباءتها معطفاً واقياً من خراطيم المياه وتتلفع بالعلم وتحمل قناعاً واقياً من الدخان. لا قلم يمكنه وصف التعبير المرتسم على ملامحها. هي الكبرياء حين تمتزج بالاشمئزاز ونفاد الصبر. كأنها سليلة تلك المرأة التي جاء من يبلغها باستشهاد أولادها في ثورة سنة 1920 ضد الإنجليز. قال لها إن تعبها في تربيتهم ذهب سدى. ردّت: بل ربيتهم لهذا اليوم.
لا نريد أن نربي أبناءنا للموت. لا في العراق ولا سوريا ولا فلسطين ولا اليمن. تخرج الأمهات للدفاع عن الحق في الحياة. تتركز العدسات على نساء تونس ومصر ولبنان وهن في المعمعة. لا يعترف حب الوطن بالتمييز الجنسي. ثم تصبح كل تلك الصور لوحات وملصقات ولافتات وقصصاً ومقالات ولا شيء يضاهي الأصل. يكتب المنتفضون حكاياتهم بأرواحهم. لا ينتظرون الخلود في النصوص. لا أحد ينتظر السلحفاة وحمام الزاجل في زمن الومضة والإلكترون.