عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

بدلاً من لعن الظلام... ازرع شجرة

تنفست الصعداء لوقوف التاكسي أمام باب المطعم، فالمطر اللندني ينهمر غزيراً. تلاشت الابتسامة، إذ قطع طريقي طابور مدرسة ابتدائية بأعمار تتراوح ما بين الخامسة والعاشرة بقيادة المعلمات، والجميع يتصببون بللاً. المطر غسل حروف لافتات رفعوها وتداخلت أصباغها فخمنت أنها عن التغيير المناخي من صيحاتهم. «أنقذوا الكوكب»، والمقصود كوكبنا الأرضي.
فاليوم إضراب أسبوعي عن الدراسة اقتياداً بالطفلة السويدية غريتا ثنبيرغ.
ما زلنا بانتظار أدلة علمية، كأدلتهم على التغير المناخي، كيف سيتمكن الجيل الذي سيقود العالم بعد عقدين من إنقاذ الكوكب، بينما تحصيله الدراسي للمعارف والعلوم يقل كماً، بالإضراب الأسبوعي، عن خمس مستوى تعليم الجيل «المسؤول» عن إفساد البيئة؟
انشغلت عن قراءة المنيو بتجفيف ملابسي، وضيفتي، نائبة في البرلمان الأوروبي دعوتها لنتباحث في الـ«بريكست»، كانت لمحتني أصارع المطر وصيحات الأطفال فتساءلت: أليس من الأفضل إيقاد شمعة بدلاً من لعن الظلام؟
لماذا لم تصطحب المعلمات الأطفال إلى هامبستد هيث، أكبر مساحة أشجار باسقة في لندن، تبعد خطوات عن المدرسة، لزراعة شتلات أشجار صغيرة واحدة باسم كل فصل؟ أو تحويلها إلى دراسة على الطبيعة عن الشجرة كنظام بيئي متكامل تسكنه الحشرات والكائنات الصغيرة والزواحف وتعشش فيه الطيور؟
الأشجار أو شجرة، ككلمة لم تذكر ولو مرة واحدة في مانيفستو حزب الخضر البيئي المنشور كبرنامج سياسي في آخر انتخابات أجريت في 2017.
ألم تخبرهم المعلمات عن العجوز الهندية سلامورادا ثيمالكا - وتعني الأشجار المصطفة - اسم الشهرة للمسز شيكايا التي تجاوزت المائة قضت 65 عاماً منها لزرع ثمانية آلاف شجرة على نفقتها الخاصة، بينما تعمل في الحقول منذ أن كانت في العاشرة ولم تذهب إلى مدرسة؟
لكنها مجهولة مقارنة بشهرة طفلة سويدية مرفهة يصفق لها العالم ويضعها على منصة الأمم المتحدة بينما لم ترَ في حياتها فلاحاً يجر محراثاً في أرضه.
على المقبلات تناقشت وضيفتي في آخر احتجاج درامي لحركة «تمرد الفناء» (ترجمتي الاجتهادية لـextinction rebellion) وما فهمته من الاسم هو أنهم يتمردون (لا أعرف على ماذا وضد من بالتحديد؟) من أجل إنقاذ كوكب الأرض من الفناء.
الاحتجاج الذي كنت أبحثه مع النائبة الأوروبية أن السادة متمردي الفناء، كلهم من البيض من أبناء الطبقة العليا بملابس «ديزاينر»، آخر موضة جاءوا يوم الخميس بعربة مطافئ ضخمة واستخدموا مضخات إطفاء الحريق فيها لإفراغ ما في خزان العربة. لم يكن المحتوى الرغوة الخاصة بإطفاء لهب الكيماويات التي لا تنفع معها المياه، بل كان سائلاً يمثل الدم... سائل أحمر تستخدمه السينما والمسرح وحواة السيرك بديلاً عن الدم.
أفرغوها على مبنى وزارة المالية وواجهته بالحجر الأبيض المصقول الجميل في الشارع المقابل لوزارة الخارجية في الطرف الجنوبي من حديقة سانت جيمس والسلالم المؤدية والرصيف... تناقشنا، من سينظف المكان والمبنى والشارع؟
العمال المساكين من أدنى الطبقات الكادحة في المجتمع... والذين لا يلتقي بهم آباء وأمهات شباب وشابات «تمرد الفناء» الذين سينظفون المكان. فالآباء والأمهات مستثمرون وارستقراطيون ومحامون وأطباء... ربما يلتقون بعمال التنظيف كخدم عندهم. سيعملون طوال الليل في التنظيف.
ومن القادر مادياً على شراء سيارة مطافئ ضخمة وزنها عدة أطنان وملئها بآلاف من لترات الدم الصناعي وثمن علبة ماكياج الدم السينمائي يتجاوز ثمانين جنيها؟ سيارة المطافئ محالة للمعاش، تخلص الإطفاء منها لانتهاء صلاحيتها وزيادة استهلاك محركها الديزل الملوث للبيئة. أجبرت الهيئة على التخلص منها بقانون نظافة هواء المدن، الصادر منذ سنوات.
وهنا المفارقة، ساقوا محرك ديزل يلوث البيئة لأكثر من عشرة أميال ووضعوه أمام مبنى وزارة المالية والمحرك دائر طوال اليوم ينفث ملوثات البيئة في احتجاج للدفاع عن نقاء البيئة!
الجماعات تعتبر أن الطفلة السويدية غريتا ثنبيرغ هي مبعوثة العناية الإلهية كقديسات العصور الوسطى لإنقاذ الجنس البشري من نفسه. ورغم أنها بلغت لتوها السادسة عشرة فما زالت في نظر القوانين السائدة قاصراً لا يسمح لها بالزواج، أو التصويت في الانتخابات، أو التدخين، أو شراء مشروبات أو تناولها، أو قيادة السيارة، لكن حوارييها وأتباعها وهتّافيها و«التغيرمناخيين» يعتبرون أن قوى خفية غامضة منحتها مواهب وصلاحيات وعلوماً فوق قدرتنا نحن عباد الله العاديين على فهمها... مثل مئات الحكايات التي سمعناها عن السذج الذين يفرغون ما في جيوبهم لشخص «مكشوف عنه الحجاب» يقرأ الطالع ويرشدهم بما تهديه إليه النجوم. ألم تلقِ خطاباً من منصة الأمم المتحدة وتعنف زعماء العالم على إضاعة مستقبلها وهم يصفقون لها؟ «مكشوف عنها الحجاب» بالطبع.
ابحث على الإنترنت تكتشف أن خطاب الطفلة المعجزة «سانت غريتا» أمام الجمعية العامة منقول - بتصرف بسيط - عن خطاب مماثل عن البيئة وإنقاذ الكون من التسخين الحراري ألقته طفلة معجزة أخرى عام 1992 ابنة الثانية عشرة سيفيرن كاليس - سوزوكي أمام الجلسة الافتتاحية لمؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو. وسيفيرن هي ابنة ناشط البيئة الكندي كاليس - سوزوكي.
سيفيرن التي تطرق اليوم باب الأربعين نادمة لا شك على عدم تسجيل حقوق التأليف والنشر، خاصة أن بلاغة غريتا رشحتها لجائزة تقارب الربع مليون جنيه.
ويبدو أن «التغيرمناخيين» يمارسون ما يبشرون به بإعادة تدوير نفاياتهم الكلامية من قمة الأرض إلى خطاب الأمم المتحدة بعد ثلاثة عقود.
وبمناسبة التدوير، حذر علماء البيئة في عام 1966 من نفاد البترول ومجاعة عالمية خلال عشر سنوات. وفي 1970 حددوا عام 2000، بداية عصر جليدي يبلغ أقصاه في عام 2020.
في 1976 حذروا من زيادة معدل برودة الأرض بأدلة علمية... في 1989 بعد «ثقب الأوزون» غيرت الأدلة العلمية البرودة إلى الاحتباس الحراري وارتفاع منسوب البحار وغرق نيويورك بحلول 2012.
وفي 2002 تنبأوا بمجاعة في عشر سنوات إذا لم نتوقف فوراً عن أكل اللحوم والأسماك. وفي 2008 تنبأوا بأدلة علمية، بانصهار ثلوج القطب الشمالي كلية بحلول 2018. وفي 2015 حذرونا من أن أمامنا 500 يوم فقط قبل الفناء مناخياً. وفي 2019 جاءوا بالطفلة المعجزة لتقنعنا بنهاية العالم مناخياً.
على نافذة المطعم ورقة نزعها المطر من يد تلميذة خطت عليها بالألوان. «لا تأكلوا اللحوم إنقاذاً للبيئة»... ضيفتي تعرف أنني امتنعت عن اللحوم واكتفيت بالأسماك لأسباب صحية لأكثر من عامين... تبادلنا النظرات... وابتسمنا... وطلبنا قطعتين من استيك اللحم الأحمر الاسكوتلندي. وانفجرنا ضاحكين.