داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

«القاعات الخالية»... مشكلة عربية

كنا مجموعة من الكتاب والصحافيين خلال الحرب العراقية - الإيرانية مع وزير إعلام عراقي سابق في شبه مؤتمر. افتتح الوزير الجلسة بكلمة عن دور المثقفين لتحقيق هدف «القلم والبندقية فوهة واحدة» قال فيها: «أريد مؤتمراً لا ينظر فيه أحد إلى ساعته». وبعد ساعتين من «الحقيقة والواقع» و«الظروف الخطيرة التي تمر بها الأمة أكثر من أي وقت مضى» و«التحديات الزمكانية» و«الإرهاصات الملتوية في خضم الصيرورة» بدأ بعضنا يتنحنح ويتثاءب وينظر في ساعته!
من المؤكد أن أكثر القراء يتذكرون الآن ظروفاً مشابهة ومؤتمرات واجتماعات مملة وثقيلة يكرر المتحدث ما قاله الذي تحدث قبله.
الأسوأ من هذه الاجتماعات، تلك التي لا يحضرها إلا عدد محدود من المدعوين الذين يكتفون بالاستماع إلى المحاضر من دون أي مناقشة، أو الشخير أو تقليب «الواتساب».
إنها ظاهرة لافتة للأنظار في مؤتمرات علمية وأدبية واقتصادية واجتماعية صارت تطلق عليها تسمية «القاعات الخالية».
وأتيح لي أن أحضر قبل سنوات في مدينة الإسكندرية احتفالية بمئوية أمير الشعراء أحمد شوقي نظمتها مكتبة الإسكندرية لم يحضر جلستها الافتتاحية سوى ثلاثة شعراء عرب من فلسطين والعراق والكويت وأعضاء الهيئة المنظمة للاحتفالية ونحو مائتي طالب وطالبة من طلبة جامعة الإسكندرية!
وللحقيقة والتاريخ فقد حضرها أيضاً أحد الممثلين الكوميديين المصريين الذي انفرد خلال إلقاء القصائد بالإدلاء بتصريحات للقنوات الفضائية عن أدواره السينمائية والتلفزيونية الثانوية، وتطوعت إحدى الممثلات المحجبات لإلقاء بعض قصائد شوقي مع إضافة ما يلزم من أخطاء نحوية شنيعة اغتالت جميع أخوات إن وكان... لسوء سلوكهن ربما.
بمعنى آخر: إن الحاضرين من الأدباء لم يكن يتجاوز العشرين شاعراً وناقداً وصحافياً، أما الباقون فهم «كومبارس» للتصفيق والإيحاء بأن الاحتفالية شهدت حضوراً مكثفاً من الجيل الجديد. والذنب طبعاً ليس ذنب مكتبة الإسكندرية التي تبنت الاحتفالية ولا ذنب الهيئة المنظمة التي بذلت الكثير أدبياً ومادياً لإنجاحها، لكن المشكلة في الأدباء الذين وجهت لهم الدعوات ولم يحضروا. وإذا كانت الإسكندرية بعيدة بعض الشيء عن العاصمة (ساعتان بالقطار)، فإن الظاهرة نفسها موجودة في القاهرة ولاحظتُها مراراً في احتفاليات وندوات ومؤتمرات ومحاضرات كانت قاعاتها شبه خالية، بينما كانت قاعات المطاعم التي تقام فيها ولائم هذه الفعاليات مليئة بعابري السبيل الذين يجدون فيها طعاماً شهياً مجانياً.
وكانت وزارة الإعلام العراقية تلجأ في دورات مهرجان المربد الشعرية إلى إلزام موظفي الوزارة بحضور جميع الجلسات وإلا تعرضوا للعقاب، لكن الوزارة منعت الموظفين المساكين من دخول مطاعم المربد المخصصة للضيوف العرب والأجانب، ومئات المتطفلين الذين لا يهمهم من مهرجان المربد إلا الثريد.
على أي حال الأمر ليس محصوراً بالأدباء فقط، فالقاعات الفارغة موجودة في المؤتمرات والندوات العلمية أيضاً. ويذكر المحرر العلمي لصحيفة «الأهرام» جمال محمد غيطاس أن أحد كبار علماء العالم في المعلوماتية والحاسبات وقف قبل سنوات قليلة لإلقاء محاضرة رفيعة المستوى في قاعة المؤتمر العلمي السنوي المصري للاتصالات والحاسبات الذي يشرف عليه المعهد الأميركي لمهندسي الإلكترونيات والكهرباء، ولكنه لم يجد أحداً في القاعة، فاضطرت إدارة المؤتمر إلى إلغاء المحاضرة، والاعتذار بخجل للعالم الكبير الذي جاء إلى مصر بعد جهود مضنية بذلها عدد من علماء مصر المغتربين لإقناعه بترك أعماله، والسفر إلى مصر على نفقته الشخصية لإلقاء المحاضرة التي ألغيت. أما بقية جلسات المؤتمر فكانت نسبة الحاضرين ممن وجهت لهم الدعوات لا تزيد عن عشرين في المائة مقابل ثمانين في المائة من الأجانب.
وفي مناسبة أخرى شارك أكثر من 400 من صفوة الخبراء والمختصين الأجانب في المؤتمر السنوي للمنظمة العالمية لقواعد البيانات الذي عقد في القاهرة. وتكرر الموقف نفسه، إذ بدت القاعة شبه خالية إلا من الأجانب، بينما اهتم أهل الدار بالضيافة وتنظيم رحلات سياحية إلى الأهرامات وخان الخليلي وبواخر النيل و«نورت مصر».
وفي إحدى المرات جاء إلى القاهرة الدكتور جونج كيم رئيس مختبرات «بل» الأميركية لأبحاث الاتصالات لإلقاء محاضرة عن «المنافسة والنمو الاقتصادي والابتكار والتجديد»، ولم يجد الرجل في القاعة سوى ثلاثين شخصاً معظمهم من موظفي الشركات الذين حضروا ليقال إن شركاتهم مهتمة بالابتكار والتجديد. وتوقع المحاضر أن يسمع من الحاضرين أسئلة عن الموضوع إلا أن ذلك لم يحدث.
واضطر مسؤول مصري في مناسبة أخرى إلى الاعتذار علناً من الأجانب لضعف المشاركة المصرية في المؤتمر الدولي للدراسات العامة لصناعة تكنولوجيا المعلومات الذي عقد في القاهرة، فقد ظلت القاعات خالية من المشاركين المحليين طوال أيام المؤتمر.