جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

«بريكست»... تفاءلوا

على رغم العصف السياسي المشتعل في بريطانيا، والتجاذب الحاصل بين السياسيين حول مسألة «بريكست»، إلا أن صحيفة «التايمز» البريطانية الشهيرة، اختارت عنواناً بارزاً آخر لا علاقة له بكل ذلك على رأس الصفحة الأولى، وببنط كبير، شملته بتعليق في افتتاحيتها دلالة على اهتمامها به، هو: «انظر دوماً إلى الجانب المشرق: المتفائلون يعيشون لفترة أطول حقاً».
الحقيقة، أن ظهور التقرير بهذه الأسبقية، على كل الأخبار السياسية، وخاصة أخبار مأزق «بريكست»، ودهاليزه، هي ما حثني على التساؤل عن الأسباب وراء ذلك أولاً، ثم التركيز على قراءته، واستيعابه ثانياً، وتعميم الفائدة على أوسع نطاق ممكن، ثالثاً.
عنوان التقرير يذكرني بمسلسل كوميدي مشهور تابعته في العقد الأخير من القرن الماضي اسمه باللغة الانجليزيةOnly Fools and Horses (فقط للحمقى والخيول)، بطولة ممثل شهير اسمه ديفيد جيسون ونيكولاس ليندهرست، وكان يبدأ بأغنية كمقدمة له تقول كلماتها: «دوماً انظر إلى جانب الحياة المشرق...»، لكن هذا لاعلاقة له بالتقرير الذي أنا بصدده عن دراسة تجريبية منشورة في مجلة علمية اسمها:Proceedings of the National Academy of Science، وقام بها مجموعة من الأكاديميين الأميركيين في المدرسة الطبية جامعة بوسطن، قامت بمتابعة طويلة الأمد لمجموعتين من النساء والرجال. يبلغ عدد النساء 69.744، والرجال 1.429. وأنهت المجموعتان مسوحات شخصية مفصلة لقياس مستويات تفاؤلهم وعاداتهم الصحية عموماً. تراوحت أعمار النسوة بين 58 – 86 عاماً، حين تعرضن للتقييم عام 2004، في حين أن «حالة الوفيات» بينهن تعرضت للفحص بعد ذلك التاريخ بعشر سنوات.
وتبيَّن للقائمين بالدراسة أن متوسط مدى الحياة عند أكثر النساء والرجال تفاؤلاً يزيد بعدد من السنين يتراوح بين 11 – 15 عاماً عن غيرهم من المشاركين. وتبيَّن أن المتفائلين بين المشاركين لديهم فرصة للعيش أكثر بنسبة تتراوح بين 50 – 70 في المائة، حتى سن 85، مقارنة بالأشخاص الكئيبين.
المشرفون على الدراسة لم يعرفوا على وجه التحديد السبب أو الأسباب التي جعلت التفاؤل عاملاً مساعداً لأولئك المشاركين على العيش أطول عمراً، لكنهم أشاروا إلى تحليلات أخرى تقترح أن الأشخاص الأكثر تفاؤلاً ربما لديهم القدرة على تنظيم عواطفهم، وبالتالي التغلب على الصعوبات بشكل أكثر فعالية.
هذه الدراسات الطبية العلمية مهمة، بسبب ما تجريه من تجارب، وبحوث، واختبارات تساهم إلى حد ما في شرح الكثير من المسائل الحياتية الإنسانية المعقدة المؤرقة للبشر، وتفتح الأبواب أمام العقل الإنساني لينمو ويتطور في سعيه لإضاءة العديد من القضايا التي تتسم بالغموض، وتسبب القلق للنفس البشرية، وخاصة في صراعها الوجودي المزمن للتغلب على صعوبات الحياة، أو على الأقل، الرغبة في العيش أطول فترة زمنية ممكنة. وهي ضرورية، أيضاً، لتحقيق ذلك المكسب الصغير متمثلاً في العيش سنوات أزيد، في حياة هانئة وسعيدة.
لذا، فإن الإقبال على الحياة وما فيها من جوانب مشرقة، مضافاً إلى كل ذلك عادات صحية مكتسبة مثل ممارسة التمارين الرياضية، والإقلاع عن التدخين مهم جداً في حياة البشر عموماً.
هذا، بالطبع، لا يعني أسقاط مشاعر إنسانية كالحزن من الحساب، أو تجاهلها. ولا يعني كذلك، تناسي حقيقة أننا، كبشر، في سعينا لتحقيق طموحاتنا، نكتفي فقط بالتفاؤل، وننسى شيئاً آخر اسمه الإحباط، أو فقدان أحبة وأعزاء. وماذا عن عالم يعاني فيه، وفقاً لاحصائيات رسمية، أكثر من 300 مليون من البشر، من الكآبة المزمنة؟
التفاؤل بالحياة، أمر جميل وقد يطيل العمر، ويزيد من جرعات السعادة. السؤال كيف يتحقق ذلك، في عالم أرضي عدواني، يتسع للحروب، بمختلف أنواعها، ويضيق، بانفساح مساحاته، أمام العيش المشترك بين ساكنيه في سلام؟
من أين يتأتى لإنسان، عالمثالثي، التفاؤل، وهو يعيش، مطارداً في حياته، ومهدداً بالموت، قتلاً، وجوعاً ونهباً، وتشريداً، حتى داخل حدود بلده، وبين أهله وجيرانه؟