نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

اطلب الجوائز ولو في الصين

كنت أعتقد أن العرب وحيدون في حبّهم الجوائز والألقاب وحفلات التكريم، إلى أن عرض عليّ مسؤول سابق في الأمم المتحدة إنشاء منظمة مختصة بتقديم الجوائز البيئية إلى موظفي المؤسسات الحكومية والإدارات المحلّية في الصين. واستفاض في الشرح، قائلاً إن الموظفين يحتاجون إلى جوائز وشهادات للترقية في عملهم، أما أعضاء «اللجان التحكيمية» من المنظمات الوهمية ذات الأسماء المغرية فيجوبون المدن الصينية على حساب المضيفين، للسياحة وإلقاء محاضرات، لقاء مكافآت مالية، ذات مواضيع مكرّرة.
كل هذا في إطار دورات تدريبية، توزّع في نهايتها شهادات، وتليها جوائز لأفضل المبادرات والبرامج البيئية. فالبيئة أصبحت موضع اهتمام كبير في الصين: من تلوث الهواء والمياه والتربة، إلى الطاقة المتجددة وحماية الطبيعة وإدارة الموارد. وعلى الموظفين وهيئات الحكم المحلي إظهار إنجازاتهم لكبار المسؤولين، علماً بأن الطريقة الأقرب منالاً هي الحصول على شهادة تقدير يقدمها ممثل هيئة أجنبية يتمتع بلون بشرة مختلف.
لم أكد أعتذر من صديقي عن تلبية طلبه؛ لانشغالي بأمور ترتبط بالعمل الحقيقي في مجال البيئة والتنمية، حتى تلقيت خبراً عن قيام هيئة عربية بإطلاق «شهادة اعتماد استشاري بيئي». وتذكّرت تلك الأم التي جاءتني قبل سنوات بابنتها - وهي آنذاك في بداية دراستها الجامعية - لتسألني كيف تصبح «مستشارة»، فأوضحت لها أنه عليها أولاً أن تختار اختصاصاً محدّداً، وتنجح في دراستها، وتكتسب خبرة وسمعة في عملها، وبعد ذلك يمكن أن تفكّر كيف تصبح مستشارة يسعى الزبائن في القطاعين العام والخاص إلى خبراتها، فلقب «استشاري» لا يأتي عن طريق شهادة. كما تذكّرت أولئك الذين يطلقون على أنفسهم لقب «خبير بيئي» لمجرد أنهم حضروا اجتماعاً هنا أو كتبوا مقالاً هناك.
في بعض البلدان العربية جمعيات وهيئات مختصة بتقديم الجوائز، وقد أصبحت البيئة جزءاً من معظمها. وفي حين تُمنح بعض الجوائز لأشخاص جدّيين بهدف التغطية على الهدف الحقيقي واستقطاب الرعاية، يتم استيفاء رسوم من الآخرين لقاء حصولهم على «التكريم». وهذا يكون عن طريق تبرّعات وبدلات مرتفعة لحضور حفلات ومهرجانات. وقد أخبرني رئيس سابق لجهاز شؤون البيئة في بلد عربي أن سيّدة جاءته تطلب مشاركة الجهاز البيئي الرسمي في منح جوائز «خضراء» لمؤسسات سياحيّة، من دون أي التزامات مادية. لكن الطلب رُفض، لعدم انطباق الشروط على أي مواصفات علمية. إلا أن السيدة نجحت في تأمين الغطاء الرسمي من هيئة أخرى، وأقامت حفلاً ضخماً منحت فيه «الجوائز الخضراء»، بتمويل سخي من المؤسسات السياحية الفائزة. واستساغت السيدة، التي أغدقت على نفسها لاحقاً لقب «دكتورة»، مهنة تجارة البيئة، فأسّست شركة تمنح شهادات «الاعتماد الأخضر» لجميع أنواع البشر والمؤسسات، شرط أن يكون صاحب الحظ السعيد مستعداً لدفع الرسوم.
ولا ننسى الذين سجّلوا شركات تجارية في سويسرا تحت اسم منظمات عربية - أوروبية، وبدأوا بتوزيع الشهادات والجوائز والدروع، ولا الذين أعلنوا عن تأسيس «اتحادات» صورية لجمعيات، أكانت للبيئة أم للتنمية والشباب والرياضة، بعدما عجزوا عن تأسيس جمعية واحدة جدّية عاملة. والأنكى أنهم وجدوا هيئات مفلسة، فكراً ومالاً، تمنحهم الغطاء لقاء رسم سنوي. أما عملهم الوحيد فهو، بالطبع، منح الجوائز والدروع، الذي أصبح شغل الذين لا شغل حقيقياً لهم.
وما دمنا في مجال الجوائز والألقاب والشهادات الوهمية، نذكر موضوع غلاف نشرته مجلة «البيئة والتنمية» قبل سنوات بعنوان «دكاترة البيئة». وهو كان مستوحى من بعض العاملين في مجالات البيئة، في القطاعين العام والخاص، الذين بدأوا فجأة باستخدام لقب «دكتور»، فحصل بعضهم على ترقية في الوظيفة، بينما بدأ البعض الآخر بالترويج لنفسه بصفته استشارياً في تنظيم الدورات التدريبية وتوزيع الشهادات، كما لو كان الجميع تحوّلوا إلى مرضى أوهام. وقد كشف التحقيق عن شركات وهمية مسجّلة تحت اسم جامعة، يقتصر وجودها على عنوان إلكتروني، وهي تمنح شهادة مشتراة بالمال. ولأنها مسجّلة كشركة تجارية، يتم المصادقة على توقيع مديرها من الغرفة التجارية والسفارة، وصولاً إلى الوزارة. ويبلغ عدد هذه الحالات في البلدان العربية الآلاف. ورغم انكشاف الأمر، بقي معظم المتورطين في وظائفهم، وبعضها في التعليم الجامعي، ستراً للفضيحة؛ لأن بعض رؤسائهم متورّط أيضاً.
لم يمنع رفضي مشاركة صديقي المتقاعد في إنشاء «منظمة الجوائز» من بدء جولاته في الصين، لتوزيع الجوائز والشهادات باسم منظمة وهمية أسّسها، في حين يتم تسديد ثمن «التكريم» تحت اسم «دورات تدريبية». قد يردّ المعترضون على كلامي بأنه إذا كانت ثقافة الجوائز الوهمية شائعة في الصين، البلد الذي يركض مسرعاً نحو القمة، فلماذا نعترض عليها في البلدان العربية؟ الجواب أنهم في الصين يتسلّون بالجوائز البيئية والشهادات، التي تبقى محصورة في بعض الإدارات الحكومية، ولا تتم ترقية أستاذ جامعي أو باحث علمي أو مدير شركة تكنولوجية بناءً على جائزة أو شهادة وهمية.
الأجدى أن نأخذ من الصين ثقافة الجدّ والمثابرة والتخطيط الدقيق، التي أوصلت البلد إلى أعلى المرتبات في التقدّم العلمي والتكنولوجي والصناعي. ولا بأس عندئذٍ أن تكون الجوائز وحفلات التكريم للتسلية، إذا كان هذا يُفرح البعض ولا يُضرّ بمستوى العلم والإدارة، كما بسمعة البلد.